التغابن.. ( قصة قصيرة) عبد الوهاب أبو هاشم

تابعنا على:   22:34 2017-10-05

كان الجو مسوداً كالإثم عابسا كالصمت حتى وإن تخلله همس متقطع كسكرات المحتضر في ذلك المحيط الغريب.. هذا ما يلمسه العابر ويؤكده ذلك الشبح المقيم وهو يحدِّق في السواد يتلمَّس ضالة.. ليست شخصاً بعينه ولا خصماً بصفته، فلم يخفف من هواجسه تلك الجموع على مرمى السمع وقد التفّوا زُمَرا من على مسافات يصدرون أصواتا خشنة تعلو أحيانا كالشجار وتخفت أحيانا كالنجوى.

..كان يتأمل الأفق الداكن بريبة وتوجس وكان لا بد أن يقارن.. بالأمس كان يرتع وسط هلما الأضواء تحف به كل ألوان الطيف وسط الصخب المثير، واليوم لا يرى إلا الرمادي يشف أحيانا عن أشباح تخترق ساحة المكان ثم يبتلعها المجهول..

هو لا يذكر كيف استقر بذلك المقام.. مؤكد أنه لم يختره رغم قدرته المعروفة على اختيار بديلاته.. أما وقد تخلص من وزنه فقد غدا مؤهلاً ليجوب الآفاق ويستقر أنّى شاء.. رغم ذلك ظل قابعا في ركنه ينتظر شيئاً ما.. مظنونا إن لم يكن مؤكدا..

لكن القادم جاء مختلفاً.. أهلّ شبحا قبل أن تتضح ملامحه..

ـ قال كالمتأفف: ما الذي أتى بك ؟!..

ـ الثاني : على رسلك!.. وجدتني هنا.. لماذا اخترت العتمة مكانا؟!..

ـ الأول: كما اخترتها أنت!.. ألم ترني رغم العتمة؟!.. مع ذلك لك أن تنصرف.

ـ الثاني: غريب!.. لطالما ظللت تحتفي بي، فما عدا مما بدا؟!

ـ الأول: كنت مغيَّبا.

ـ الثاني: لا تنس أنني تعهدت بذرتك!!..

ـ الأول: لماذا تثير هذه النقيصة الآن وأنا أجتهد لأنسى؟..

ـ الثاني: النسيان نعمة لم تعد قائمة .

ثم استطرد: أتعلم أنني أمقتك يا سيد. ومع ذلك قدمت إليك لنتدبر أمرنا!!..

ـ الأول: هذا السيد كان أبوك الروحي.. جنون القوة جعلك عاقا!..

ـ الثاني: وجعلك ظالما من قبل.

ـ الأول (مطرقا): نعم بكل أسف.

... يسمعان صوتا.. يُقبل صاحبه.

ـ القادم الثالث: صديقَيّ.. سعدت بكما رغم كل شيء

ـ الأول: ما هذا الشيء كله؟

ـ الثالث: لديَّ إحساس أنكما نادمان..

ـ قالا: صدق إحساسك.. وماذا بعد؟

ـ الثالث: لا يهم.. تبوأت مكاني مستحقا بكم ومن غيركم..

ـ رد الثاني بملل بيِّن : قل ما تشاء فقد انتهت اللعبة..

ـ عقب الأول في قرف: أكاد أختنق أيها السيدان.. أنتما تضيِّقان أنفاسي..

ـ الثالث: لم أعد بحاجة أحد.. انتبها.

وفي اللحظة يظهر شبح رابع.. ينضم لثلاثتهم وتتهلل أسارير الثالث:

ـ هذا شاهدي ولله الحمد حضر في الوقت المناسب..

ـ الرابع: أنتم أيضا!!.. يفزعني أن أكون بينكم وألتقي هذا المارق خاصة..(مشيرا إلى الثالث)

ـ الأول : ما لهذا النكرة!..

ـ الثاني: دعه هذا أحد موظَّفيّ .. يبدو أنه تمرَّد مع التغيير الأخير.

ـ الثالث: لم أدعه يوما لزيارتي.. كان يأتيني هذا الدعي سرا وعلنا وبلا دعوة!!.. ما باله يتأفف من رؤيتي الآن؟!..

ـ الرابع: ليس غريبا أن تجتمعوا بليل فهذا ديدنكم!!

ـ عقب الثاني ساخرا: نحن الوطاويط ننشط ونرى ليلا!!..

.... واستطرد: لطالما توسَّلتَ لقاءنا!!

ـ الرابع: خدمتكم خوفا وطمعا حتى لاكت سمعتي الألسنة ولعنني الخلق.. هربت هنا ولا مفر!.

الثاني معقبا: واضح أن أمرا يجمع أربعتنا.....

... ثم يلتفت ويستدرك: لا بل خمستنا

......... يقبل القاضي مسلما بفتور..

ـ القاضي: يااااااه أي شيطان جمعني بكم!!..

ـ الثالث (بدهاء): صحيح.. هذا القاضي ما شأنه بنا؟؟..

ـ الأول: شأنه في اختصاصه

ـ القاضي موافقا: .. ضعفت بالفعل أمام ثلاثتكم.

ـ الثالث: لا تضخم الأمر أيها القاضي!!..

ـ القاضي: بل هي المأساة التي اقترفت على علمي!..

ـ صاح الثالث : مأساة!.. أين المأساة؟! وبحق من هذه المأساة أيها المخرِّف؟!.. أوووووه.. لعلك تقصد تلك الحشرة قاتل الأطفال!!.. أتحرِّمون قتل العقارب؟!!..

ـ الأول: صحيح رأيناه هكذا بعيونك.

ـ الثالث: بل بعين الحقيقة.. هذا أخوه شاهدي.. إنه شاهد من أهله..

ـ الرابع: لا أحد يسألني.. كفاني يا قلب!

ـ القاضي: لن تجدي المكابرة .

ـ صاح الثالث بعصبية: تبا لكم جميعا.. حققت أمن واستقرار أبنائي . ولست نادما على شيء.

..........................

كانوا مجرد زمرة من أخرٍ تناثرت في المحيط الداكن كسجن طوعي مفتوح، ولكل زمرة شأن يغنيها.. وكان القلق والانتظار هما السيدان وهم منهمكون في حسابات وتحسبنات قطعها صوت القاضي فجأة.

ـ أيها السادة.. أين نحن الآن!!!؟؟؟ .

اخر الأخبار