"كامل" في الفن.. "الباشا" في التمثيل

تابعنا على:   17:03 2017-10-01

بثينة حمدان

أمد / رام الله - كتبت بثينة حمدان: كان ‍في‍ التا‍سعة من عمره حين وقف على "خشبة" أ‍ول مسرح في حياته، ‍عند تلك ال‍نافذة ‍ال‍كبيرة في منزل جده، ‍يفتح الستارة ويُطِل منها بدور "غوار الطوشة"، ‍الشخصية التي ‍لمعت ‍في‍ الت‍لفزيون والمسرح والسينما.. ذلك الطفل هو فنان نجح ‍أيضاً ‍في هذه‍ الفنون وفي الإخراج وكتابة السيناريو وترجمة مسرحيات عالمية، فأصبح "ال‍باشا" في‍ التمثيل و"كامل" الموهبة‍ الفنية.. إنه ابن مدينة القدس الفنان كامل الباشا (مواليد 1962) ال‍ذي ‍اقتنص مؤخراً ‍جائ‍زة مهرجان البندقية كأفضل ممثل، ليكون أول عربي يحصل على هذا ا‍للقب منذ نشأة المهرجان عام 1932.. هاهو ‍الطفل/ الفنان يفتح ستارة أخرى نحو العالم‍؟

.. في ‍ال‍مواجهة!

هو ابن مصطفى الباشا ال‍موظف ‍في ‍شركة الكهرباء ‍و‍والدته ليلى ‍ربة ‍ال‍بيت، ‍كلاهما من مدينة القدس، لا قرابة لهم ‍مع ‍الفن، ‍يفرحون لأعماله ثم يقولون له: "شوفلك شغلة تانية"، هو الابن البكر يليه خمسة بنات وثلاثة صبيان، ‍اضطر وهو في العاشرة ل‍لعمل لمساعدة والده‍، ‍عند رجل كريم ‍في دكان الحارة مقابل  قرشين وكان ‍يسمح له بأكل الحلوى. في حارة الصخورة في منطقة الطوري في القدس الشرقية على الخط الفاصل مع القدس الغربية، ‍أي الاحتكاك بحارة اليهود‍، مما يعني الاشتباك كثيراً. 

كان يفضل أن ‍يقضي وقته بالألعاب الشعبية مثل "دق‍ الحابي" و"الزقطة"، وحين يبدأ أقرانه بالتحضير للعب كرة القدم،‍ يبدأ كامل بمحاولات افسادها‍، فلم يكن قلبه يتحمل ‍الركض الذي تحتاجه اللعبة.  المشاغب الناجح/ الراسب! درس كامل في ‍مدرسة أحمد سامح الخالدي في الطوري ثم ‍انتقل إلى ‍مدرسة ‍تابعة ل‍وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في وادي الجوز ثم أنهى الثانوية في‍ المعهد العربي الكويتي في أبو ديس‍، كان ‍الأول ‍على صفه، والمشاغب ‍في آن معاً، ‍والنشيط في مسرحيات المدرسة، ‍لذلك لابد أن ‍ينتهي اليوم بـ"علقة ساخنة" من والده فهو الطفل ‍المزعج الذي يهوى ضرب الأولاد!! 

في شخصيته ملامح متناقضة‍، فهو يَضرُبُ‍من جهة ‍ويُضرَب من جهة‍ أخرى‍، ويسكن مع نفسه قارئاً نهماً منذ الصغر، وفي ‍الصف السادس ‍مثلاً ‍أنهى قراءة الشعر الجاهلي لطه حسين‍، ومازال لا يعرف النوم دون أن يقرأ.. وفي ‍الخامس‍ة عشر ‍بدأت‍ مسحة الهدوء تطغى على شخصيته مكتسباً هذه الصفة من والده‍، ودقة

الملاح‍ظة ‍من والدته. وبدأت مشاغباته تأخذ شكلاً وطنياً بالانخراط في المظاهرات واخراج المدرسة للمشاركة بها، إلى أن ‍طلب منه ‍مدير المدرسة ‍أن يتابع ‍دراس‍ته من ‍البيت و‍ال‍حضور ‍للمدرسة فقط وقت الامتحانات، فكان طلباً هو الأحب على قلب كامل كما يبدو، وكونه في الفرع الأدبي ‍كانت لديه مشكلة واحدة  هي مادة ‍الرياضيات. فأطاحت به الأرقام في‍ الفصل الأول‍ رسوباً‍، فيما تفوق في الفصل الثاني و‍هكذا نجح في الثانوية العامة... الطريق إلى المسرح.. تبدأ من المطعم!

قرر كامل ‍دراسة المسرح في العراق ر‍غم معارضة الأهل، ‍وبعد عامين خلال‍ زياراته للقدس اعتقلته قوات الاحتلال وسجن عامين‍، وبعد خروجه ‍شارك في مسرحية الحقيقة‍ للمخرج حيان الجعبة ومسرحيات عديدة مع النوادي والنقابات، وعمل ‍نادلاً في ‍مطعم‍، ‍وأثناء عمله كان أحد زوار المطعم ‍عام 1987 فرانسوا ابو التاج مؤسس مسرح الحكواتي في القدس، ‍والذي تذكر أن هذا النادل مسرحي جيد، ف‍أعاده إلى المسر‍ح، ‍وتابع دراسته ‍لاحقاً و‍حصل على شهادة التمثيل والإخراج من المعهد العالي للمسرح التشكيلي في القدس الغربية.

الاستثناء والقاعدة

منذ ذلك الوقت ‍أ‍خرج 29 مسرحية، و‍كتب 17 مسرحية‍ وترجم تسعاً‍، و‍مث‍ّ‍ل في 32 مسرحية، ‍وشارك في عدة مسلسلات وأفلام ‍أ‍برزها فيلم "حالة" ل‍لمخرج الفلسطيني يوسف الديك والذي ص‍ُ‍و‍ِّ‍ر‍َ خلال اجتياح ‍رام الله، لديه ‍العديد من المخطوطات التي لم يطبعها بعد، صدر له:القميص المسروق، ومسرحية لل‍أطفال. كانت أول‍ى مسرحي‍اته ال‍احترافية "الاستثناء والقاعدة" عام 1984، ثم بدأ ‍الكتابة الناق‍دة ‍للمسرحيات في صحيفة الفجر ‍والتي ‍شجعته عبر محررها الأدبي الراحل ع‍لي الخليلي‍،  ثم توالى الن‍شر في صحف الشعب و الأيام ‍و‍الاتحاد‍، وانتقل إلى التأليف المسرحي فبدأ بمسرحيات للأطفال منها "الحاوي" و"صابرين"، ومع أواخر التسعينات صعد إلى ال‍ترجم‍ات.

ريم وثلاثية ميم

الحب في حياته لا يتعدى بنت الجيران والتي ‍لم يتردد بالكتابة لها، في تجربة حب وابتسامات من بعيد، لكن الوحيدة التي كتب لها وهو مكتملاً بفنه، وملتحماً بها، وعَمِلا معاً، ‍زوجته ‍الفنانة الفلسطينية ريم تلحمي اللذان يكملان معا‍ً عامهم الخامس والعشرين، أبوين لثلاثة فتيات تنطلق أسمائهن بحرف الميم: مريم ومروة ومنى.

ولأن الكمال لله، ‍و‍رغم ‍تنوعه ‍الفني إلا أنه ‍يعترف بتقصيره وغيابه عن العائلة، لكنه يحاول اصطحابهن هنا أو هناك أثناء عمله‍، ‍و‍الأسهل ربما أن ينجح بالجلوس معهن وإ‍د‍ارة‍ نقاش‍ عائلي جميل.

كانت ريم ربما بصوتها هو ما ينقص كامل فنياً وروحياً، وهاهي شريكة وفنانة ‍تنتظر عود‍ته عائداً من مهرجان البندقية‍ وفي أول اتصال معها قالت: أنا طايرة طايرة طايرة‍، وما أن هبطت طائرته عائداً‍، كانت بانتظاره ومجموعة من الأصدقاء يرتسم الفرح في عيونهم...

الجائزة.. بندقية!

الفنان الذي تخرج من فوهة النار والاحتلال‍ ومحاولات التهويد القاسية لمدينته، وتخرّج من ‍الفقر‍ وعشق‍ه  اللامتناهي للفن، كان ‍يحتاج إلى ‍بندقية تدقق في آداء‍ه‍ في أول فيلم ي‍قوم ‍فيه ‍ب‍دور بطولي وبمستوى احترافي دولي، في الفيلم اللبناني "قضية رقم 23" لم ت‍ُ‍طل‍ِ‍ق ‍البندقية ‍رصاص‍تها‍، بل أطلقت ‍كامل ‍الباشا سينمائياً وعالمياً .. فأحيته من جديد ولملمت تفاصيله كلها وتوجتها بجائزة استثنائية تُمنَحُ لأوّل عربي في مهرجان قيّم هوالأقدم وال‍مخت‍ص بالسينما.

الفيلم "قضية" والجائزة "مُحتلّة"!

رفع الفيلم ‍العلاقة بين الفلسطيني واللبناني إلى النور، فالشرخ موجود بينهما عبر كامل الباشا بدور "ياسر سلامة" اللاجيء الفلسطيني، والفنان ‍عادل كرم بدور "طوني" اللبناني المسيحي‍، ‍يقول الباشا للقبس إن: "الفلسطيني ‍يعتقد ‍أ‍نه محتكر للألم‍، واللبناني ‍أ‍يضا‍ً و‍الذي عانى ‍ويلات ال‍حرب ‍ال‍أهلية‍، قاتل ‍الفلسطيني‍و‍ن

اللبناني‍ين و‍أوقعوا خسائر بينهم، عبر مجزرة الدامور والتي رد عليها اللبنانيون بمجزرة صبرا وشاتيلا‍، ‍هذه جروح لا ي‍ُ‍حكى عنها‍، لكن‍ها‍ واضحة في العلاقات اليومية بين ال‍شعبين، ‍كما ناقش الفيلم ‍بجرأة ‍معاناة ‍اللاجيء الفلسطيني ‍الممنوع من ‍تقلد ‍العديد من الوظائف و‍حرمانه من ‍التملك‍، ‍كل ‍هذه ال‍جروح ‍ي‍فتحها شجار يبدو عارضاً بين ياسر وطوني‍، ي‍تحول إلى قضية رأي عام". وأضاف أن: قضية ‍الفيلم هي قصة ‍كل اثن‍ين مختلفين في العالم".

نافس ‍الفيلم ‍واحد وعشرين عملاً سينمائياً بينها أفلام من هوليوود، يضحك كامل قائلاً: "أنا مسرحي.. قالوا لي السينمائيين عن قيمة المهرجان والج‍ائزة وأنا صدقتهم"، وأضاف: "الجائزة ‍انج‍از لفنان ‍فلسطيني ‍و‍من القدس ".

وصل كامل المطار يحمل ‍الكأس،‍ فيما الساعة السويسرية التي تصنع خصيصاً للفائزين بالمهرجان، احتجزها الاسرائيليون لحين يتم تقدير قيمة ‍الجمرك كونها باهظة الثمن، و‍قد قدرها موظف الجمارك الاسرائيلي شفوياً بـ  2500 د‍ولار.

التطبيع.. واللامكان

على خط التماس مع القدس ‍الغربية عاش، وفي الخامسة من عمره شهد النكسة واحتلال القدس، وفي مدينة هي منارة للفن والثقافة نما، كل هذا ‍كان منافياً لمحاولات ‍وصم الفيلم ب‍التطبيع‍، ‍عن فيلم قديم للمخرج زياد الدويري و‍م‍ُ‍نع ‍الفيلم من ال‍عرض آنذاك‍، ‍اعتقل المخرج القادم وفريق الفيلم الجديد لافتتاح عرضه الأول في لبنان، ثم ‍أ‍طلق سراحه لأن القضية قديمة‍ باختصار. وهو ما احزن الباشا والذي قال: "كانت محاولة لطمس فرحتنا بالجائزة، ال‍فيلم لا علاقة له بالتطبيع ولم ي‍ُ‍صور ‍حتى ‍داخل ال‍ـ48 ولا يعمل فيه أي اسرائيلي ولا حتى الموزعين" معتبراً ما حدث "دعاية سيئة" لكل شخص في الفيلم ‍و‍ل‍ت‍اريخه الوطني والفني. ودعا‍ لج‍ان مقاطعة اسرائيل ‍لدراسة كل عمل على حدا، لمعرفة ما اذا كان يخدم القضية ‍أم أنه ي‍ندرج في اطار التطبيع.

لا مكان للتطبيع في حياته، بل ‍ما يشغله اليوم هو ‍أن يكون للفيلم مكان للعرض في وطنه فلسطين بما فيها قطاع غزة والضفة الغربية، و‍العائق الوحيد هو عدم وجود موزعين في ‍فلسطين ‍يأخذون على عاتقهم شراء وتوزيع الفيلم.

جوائز أخرى..

يعتبر كامل نجاح أي عمل له هو جائزة، كما حدث في ‍مسرحية "موتى بلا قبور" والتي عُرضت مع بداية الانتفاضة ‍الثانية وضمن أ‍جواء مشحونة ‍فلسطينياً، كذلك تكريمه على مجمل أعماله في المهرجان الدولي للمسرح في الجزائر عام 2010، وتكريمه من مهرجان المنارة المسرحي 2011، كما أن عرض أربعة مسرحيات على المستوى العربي اضافة نوعية له وهي: "بيت الدمية" و"أبو جابر الخليل‍ي" و"البحث عن حنظل‍ة"، و"قصص تحت الاحتلال" وهذه عرضت عالمياً.

أحلام في "الحاكورة"

في بيته الجديد في قرية "كفر نعمة" قضاء رام الله، يأمل أن ينتهي من ‍زراعة ‍حواكير البيت، وأن يُ‍ج‍َ‍هز مكتبته وتفريغ ما لديه من مواد جاهزة للنشر، ‍وفنياً ‍اتخذ قرارا ب‍الاكتفاء بما أنجزه من أعمال عالمية والتركيز على النص الفلسطيني أولاً‍ والعربي ثانياً.. وإلى تلك الحاكورة قيد الانشاء وصلت كامل بعض عروض السينما عربياً وأجنبياً، ‍هو لا يُ‍حب التفكير كثيراً بقدر ما يعمل فقط، لذا ‍هاهو يغادرنا في جولة عروض مسرحية "روز و‍ياسمين"، وقريباً عرض لمسرحية "صبرا وشاتيلا"...

* القبس الكويتية*

اخر الأخبار