أنا الكردي إذ أقرّر مصيري

تابعنا على:   11:57 2017-08-15

عصام الخفاجي

مؤثر ترحيب الأكراد بمقال يكتبه عربي يدافع عن حقهم في تقرير مصيرهم لأنه يقول الكثير عن إحساسهم بأن قلة قليلة من العراقيين تتعاطف مع حلمهم ببناء دولتهم المستقلة، في مقابل أغلبية ترى فيه تجزئة للعراق وإضعافاً له. محقّون هم إن شعروا بأن غالبية الساسة العراقيين الذين يلحّون على قيادتهم بتأجيل الاستفتاء على استقلال كردستان ينطلقون من سعي الى إدامة إلحاقها ببلد لم يعودوا يشعرون بالإنتماء له. ولعل هذا الإلحاح أعطى زخماً أكبر لحماسة قادة الكرد للاستعجال بإجراء الاستفتاء. فرغبة الخصم بالتأجيل تعني أنه متضرر منه. وتضرّر الخصم يعني استفادتنا. زعيم كردستان السيد مسعود البارزاني قال أيام تأجيج المالكي للصراع ضد السنّة إن كردستان مستفيدة من هذا الصراع لأنه ينهك العراق.

متأمّلاً في هذا الجو المسموم، كتبت مراراً أن من مصلحة الشعبين العراقي والكردي الانفصال عن بعضهما والسعي الى نسج علاقة جوار ودّية تحكمها القوانين المنظمة للعلاقات الدولية، فذلك خير من إحساس خُمس الشعب بأنهم خاضعون لإستعمار قوة أجنبية. ودعوت، وما زلت أدعو، إلى أن يجري استفتاء الكرد على الإستقلال في موعد قريب تتحدّد على إثره طبيعة ووظيفة المحادثات مع بغداد: حل لمظالم إقليم مع السلطة الاتحادية او تنظيم شكل العلاقة بين دولتين. ولأن الجو مسموم، تمنّيت على القادة في بغداد أن يكونوا هم المبادرين إلى طرح هذا الأمر لكي يزيح العراقيون عن ضمائرهم الشعور بأنهم غاصبون لحق الكرد. على الكرد أن يقرّروا بأنفسهم إن كانوا يريدون الإستقلال أم لا. على الكرد أن يقرروا أين تكمن مصلحتهم وعلى العراقيين الإمتثال لإرادتهم. فحق تقرير المصير لأي شعب هو مبدأ إنساني يعلو على أي دستور وطني. ولو كانت الشعوب الطامحة لتحقيق استقلالها ركنت إلى الدساتير الوطنية لما حصل شعب على حرّيته.

الآن، وقد اقتربت ساعة الحقيقة (إن لم يتم تأجيل الاستفتاء في اللحظة الأخيرة) عليّ أن أجيب عن السؤال الحارق: لو كنتُ كردياً فهل سأصوّت للاستقلال؟ جوابي بكل بساطة هو: لا.

أزيح جانباً الاعتبارات الإقليمية والدولية وأفترض، كما يفترض البارزاني، بأن العالم سيتعامل مع الأمر الواقع بعد إعلان الدولة وبعد أن يرى أن كردستان متحمّسة للعب دور الحليف المضمون الولاء للغرب. وسأذهب بعيداً وأفترض أن بغداد لن ترى في تعامل بعض الدول إيجاباً مع كردستان خطوة عدائية تضع تلك الدول في موقف المفاضلة بين صداقة العراق أو صداقة كردستان. وسأتجاوز الوقائع الإقتصادية التي تقول إن متوسط إيرادات تصدير نفط كردستان للمواطن الكردي (بما فيها عوائد نفط كركوك) تقل عن متوسط العائد من النفط العراقي الذي يحصل عليه المواطن الكردي الآن. وسأزيح جانباً واقع أن كردستان لا منفذ مستقلاً لها لتصدير نفطها بل لا بد من مروره عبر تركيا التي تستطيع خنقها اقتصادياً. وسأفترض أن مستوى الفساد وهدر الموارد في بغداد وأربيل متساوٍ، وهو افتراض واقعي إلى حد كبير. وسأفترض أن كردستان ستنجح في تنويع موارد دخلها وتصبح دبي الشرق الأوسط، كما يعلن قادتها، وهو افتراض أبعد ما يكون عن التحقق.

اندفاع كردستان المتسارع نحو الاستقلال مبني على شكواها من أنها، بعد أربعة عشر عاماً تلت سقوط صدّام، ليست شريكة متكافئة في السلطة الاتحادية، في حين أن الوقائع تقول إن كردستان تتمتع بسلطات تتجاوز ما تتمتع به مقاطعات سويسرا ذات النظام الاتحادي الأقل مركزية في العالم بحدود. لكن هذا لن يكون دافعي كـ «كردي» لقول «لا» صريحة للاستقلال.

دافعي هو أن كردستان لم تبن دولة مواطنة تتفوّق على بناء دولة المحاصصة الطائفية الريعية الفاسدة في العراق، وأن تحررها من القيد العراقي لن يجعلها أكثر فساداً وريعية فقط، بل دولة بوليسية كذلك. نظام حكم العراق الاتحادي متحيّز ضد العرب السنّة ودستوره مملوء بصياغات تمأسس المرجعية الشيعية. لكن سلطة بغداد لم تتجرّأ على منع رئيس البرلمان السنّي من دخول بغداد ولا على منع انعقاد جلسات البرلمان لمدة سنتين. السلطة التنفيذية لكردستان التي تستمد شرعيتها من برلمانها قامت بذلك بكل بساطة، فأوقفت بيشمركتها على مداخل العاصمة أربيل رئيس البرلمان وطالبته بالعودة من حيث أتى لتبقي البرلمان معطّلاً منذ أكثر من سنتين.

أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الحاكمة في بغداد استقوت بالغالبية السكانية للشيعة لتعمّق وتسيّس الانقسام المجتمعي بين جنوب ووسط شيعي وغرب وشمال سنّي. والحزب الديموقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل ودهوك عمّق وسيّس الإنقسام المجتمعي بين وسط وغرب موالٍ له وبين شرق وجنوب بعيد كل البعد من سلطته. لا تعجّ كردستان بالميليشيات والعصابات المسلّحة، لكن لها جيشين عجزت القيادة السياسية الداعية إلى الإستقلال وبناء الدولة عن توحيدهما. هذان الجيشان كانا قبل عقدين طرفي حرب أهلية لا ضمانة لعدم تجددها في الغد.

أتابع، أنا المواطن الكردي، أداء نوابي في البرلمان العراقي لكي أرى صورة ما سيدور في برلمان بلدي بعد الإستقلال. سلطة بغداد تبني كل حساباتها على المحاصصة. نوّابي صوّتوا بحماسة لكل ما يكرّس المحاصصة، بل إن شكواهم من عدم نيل حصّتهم من السلطة الاتّحادية هي في جوهرها شكوى من عدم المضي بالمحاصصة شوطاً أبعد. نوّابي كانوا في مقدمة الرافضين لدعوات إحلال مهنيين كفوئين في المراكز القيادية لكي لا تتخلخل حصص الطوائف والقوميات. نوّابي مدركون أن كسر نظام الكوتا في بغداد يكسره في كردستان. لم يصدر عن نوابي ولا عن قادتي السياسيين موقف واحد مؤيد للتظاهرات والحراك الجماهيري المطالب بمحاربة الفساد. نوابي مدركون أن دعم التظاهر والحراك المدني في بغداد يعني دعمه في أربيل والسليمانية، وأن فتح ملف الفساد في بغداد يعني فتحه في أربيل والسليمانية. نوّابي صوّتوا لمصلحة قانون يقيّد بشدة حرية التعبير لأنه يكرّس ما تقوم به سلطة الإقليم أصلاً من تضييق واعتقال للإعلاميين.

سلطة بغداد فاسدة. فضائح نهب أبناء وأقارب المسؤولين أكبر وأكثر من أن تُحصى. لكن الحذر من مقارنتهم بماضٍ صدّامي كريه أملى عليهم تجنّب وضع أقاربهم في موقع السلطة. لكن كردستان لا ترى مشكلة في أن يكون البارزاني رئيساً للإقليم وابن أخيه رئيساً لوزرائه وابنه مستشاراً لأمنه القومي.

فبمَ يعدني، قائدي، رئيس الإقليم وهو يدعوني، أنا الكردي البسيط، للتصويت بنعم على الإستقلال؟

مثلما دعوت قادة بغداد إلى الاستماع لصوت الشعب الكردي، آمل في أن تستمع سلطة كردستان لصوت شعبها. ومثلما يطالب قادة كردستان، محقّين، بحق تقرير المصير، آمل في أن تمنح شعبها حق تقرير مصيره بلا تخويف. آمل في أن تمنحه الحق الذي طالبت به ونالته عام 2004: الحق في تعطيل أي قانون إذا رفض تمريرَه ثلثا سكان محافظات ثلاث، أي حوالى عشرة في المئة من مجموع السكان. آمل في أن يعتبروا التصويت على الإستقلال لاغياً إن لم يحظ بغالبية الثلثين على الأقل. آمل في أن يدركوا أن العالم يرى ممارستهم الفاضحة للإرهاب المعنوي (والجسدي الموثّق مراراً) والتخوين بحق من يدعو إلى تأجيل الاستفتاء من الأكراد. آمل في أن يعرفوا أن منح شيوخ الدين سلطة إصدار فتاوى بتحريم التصويت بـ «لا» هو مقدمة منحهم سلطة على الدولة والسياسة مستقبلاً. ستذوب الحركات المركّزة على المطالب القومية مثل الاتحاد الوطني الكردستاني لتنضوي طائعة أو مشتراة أو مرغمة في جسم السلطة. لكن البديل الإسلامي ينتظر فرصة الخيبات المقبلة بكل تأكيد. لست أكثر حرصاً على كردستان من شعبها بالتأكيد. لكنني أرتعب من صورة كردستان التي لن تشبه دبي قدر ما تشبه جمهورية جنوب السودان. دولة فاشلة تتقاتل فيها قوّتا بيشمركة وتصعد في ظل القتال بالضرورة ميليشيات إسلامية تدعمها هذه القوة الإقليمية أو تلك ويصدر مجلس الأمن الدولي قرارات في شأن إيقاف القتال وأوضاع اللاجئين فيها.

أدرك، وقد عشت التجربة الفلسطينية، سحر السعي وراء علم ونشيد وطني يعمّق الحسّ بالهويّة. ولكن الويل، كل الويل، يوم يصعد جمال عبدالناصر الكردستاني بطلاً قومياً حقق حلم شعبه بعد قرن من العذاب ليبني دولة بوليسية تلوح غيومها السوداء منذ الآن. يومها قال عبدالناصر النزيه الذي لم يتلوّث بالفساد ولا المحسوبية: إرفع رأسك يا أخي، أنت مصري. رفع المصري رأسه ليركع للبطل الذي حرّره وليستمر راكعاً لستين عاماً لاحقة.

* كاتب عراقي

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار