إطلاق "نرجس العزلة" للأسير باسم خندقجي

تابعنا على:   00:27 2017-08-07

أمد/ رام الله: شهدت قاعة الجليل في متحف محمود درويش في مدينة رام الله، إطلاق رواية نرجس العزلة للشاعر والكاتب الأسير باسم خندقجي، في أمسية قدّمها الشاعر الفلسطيني خالد جمعة.

صدرت الرواية عن المكتبة الشعبية- ناشرون في نابلس وتقع في 170 صفحة من القطع المتوسط، صمم غلافها ورسم لوحته الفنان الفلسطيني كامل قلالوة.

وعقّب باسم خندقجي في نهاية الرواية الصادرة عام 2017، قائلاً: "كتب هذا المنثور الروائي في صيف 2010 وجرى التعديل عليه في شتاء 2016."

في الرواية أربعة فصول هي: تحية الورد، صدأ الأمنيات، نزف منفرد، رقصة الأبد، وصلاة الوداع.

في التاسع من أيّار عام 2001، وفي وسط قطاع غزّة، أطلقت دبّابة إسرائيليّة قذيفة اخترقت جسد طفلة في شهرها الرابع، تُدعى إيمان حجّو، نفذت القذيفة من جسد إيمان إلى جسد أمّها، لكنّ جسد إيمان خفّف قسوة القذيفة عن جسد الأمّ، فنجت الأمّ واستشهدت إيمان.

لماذا أذكر حادثة مثل هذه في مقدّمة الكتابة عن رواية لأسير من مدينة نابلس، يُدعى باسم خندقجي؟

ببساطة، لأنّ باسم، وبعد أن نطق القاضي الإسرائيليّ بالحكم عليه بثلاثة مؤبّدات، في السابع من آب عام 2005، أي بعد حادثة إيمان بأربعة أعوام، لم يعترف بشرعيّة المحكمة، ووقف أمام القاضي وقال: أنا أحد أبناء هذا الجيل الذي عاش في كنف الانتفاضة الأولى، وتوقّفت أحلامه وطموحاته عن النموّ في الانتفاضة الثانية، حين قتلتم بأفكاركم الوحشيّة، التي تتقن فنّ القتل وإراقة الدماء، ذلك الإنسان البريء في داخلي، حين رأيت بأمّ عيني الضحّيّة التي تحوّلت إلى وحش. لقد قتلتم في داخلي ذلك الإنسان، حين أفرغ أحد جنودكم مخزن بندقيّته في جسد طفلة في غزّة اسمها إيمان- هذا ما قاله باسم، لكنّ الحقيقة أنّ إيمان ماتت بقذيفة دبّابة، ولم أشأ أن أغيّر كلمات باسم.

هكذا تحوّل باسم، الطفل الوديع، إلى طفل مقتول البراءة، وهو يذكر ذلك في روايته بوضوح: "لست عنصريًّا ولا متطرّفًا، بل طفلًا سرقوا منه لعبته، وقطعوا حبل أرجوحته، وأحرقوا طائرته الورقيّة."

يمكن القول، بشيء من الثقة، إنّ رواية "نرجس العزلة" (2017) لباسم خندقجي، بصفحاتها المئة والسبعين، رواية نقديّة بامتياز؛ رواية نقد المجتمع والذات والأحزاب والنظريّات المقدّسة؛ نقد كلّ شيء تقريبًا، عبر خيط حكاية يمتدّ بتداعياته لمدّة أسبوع، عاشه شاعر، هو بطل الرواية، في عزلة تامّة في شقّته، ليعيد حساباته تجاه مختلف الأمور. وهذه العزلة جعلت كلّ ما يفكّر فيه أكثر وضوحًا لديه، وجعلت قراراته أكثر ثقة، حتّى تلك التي تتعلّق بموقفه من البلاد والاحتلال والحبّ والعمل والشعر.

وفي نقد المقدّس، قد يعتقد البعض أنّه نقد لمجمل الممارسات والعادات التي يمارسها المجتمع الفلسطينيّ، لكنّ باسم ثوريّ حقيقيّ، ثوريّ نموذجيّ، ليس فقط لأنّه في السجن لدواعي مساعدته في عمل عسكريّ أدّى إلى قتل إسرائيليّين، بل لأنّ نقده يشمل المنظومة السياسيّة بكاملها، من سلطة وأحزاب، حتّى ذلك الحزب الذي انتمى إليه، وهذا، عادة، ما يُسمّى بالطهر الثوريّ؛ فنقده لممارسات اليسار الفلسطينيّ، لا سيّما بعض الشخصيّات في الحزب الشيوعيّ التي تحوّلت من شخصيّات ذات مبادئ إلى شخصيّات انتهازيّة، يعطي باسم الحقّ في نقد الآخرين، لأنّك، ببساطة، إن انتقدت نفسك وحزبك، فلن تتراجع حين تنتقد الآخرين. ولأنّ باسم يؤمن عميقًا بالفكرة، ولكن هذا لا يمنعه من رؤية أخطاء تطبيقها.

كما يكسر باسم الكثير من المسلّمات، حين يأتي، مثلًا، بصورة الأمّ التي تغوي شبابًا من جيل أولادها لتمارس معهم الجنس، وهي، في الوقت نفسه، أمّ صديقه المدلّل؛ فهو بذلك يكسر صورة الأمّ النمطيّة التي تقول بطيبتها وعصمتها عن الخطأ. لكنّه، في الوقت نفسه، يقدّم نماذج أخرى لأمّهات طيّبات ومناضلات، لهنّ أولاد سقطوا في معركة الدفاع عن البلاد، مثل أمّ أمجد، صديقه الذي قتله الاحتلال.

ينتقد باسم في روايته الكثير من الأمور والمواقف؛ ينتقد الإسلام السياسيّ، والتمظهر الإسلاميّ خلف الرائحة الطيّبة، والسلوك القميء المعبّر عنه بسرقة حذائه صغيرًا من باب المسجد... ينتقد الإعلام الفلسطينيّ والقائمين عليه، وأوسلو، والنظام الاجتماعيّ الذي ينام على الظلم ويمارسه الناس تجاه بعضهم البعض.

هذا النقد لا يأتي في سياق معلّق في الهواء، بل هو نقد مؤسّس على وعي كامل. ليس وعيًا ثقافيًّا ومعرفيًّا فقط، بل وعي وجوديّ تشرّب المجتمع تمامًا، عبر حارات نابلس القديمة، وأطعمتها، وأزقّتها، وملابسها، وعاداتها، وسهراتها، وأعيادها. هذا التشرّب جعل باسم ينجو من النقد المطلق، النقد المجانيّ، فكثيرًا ما تقرأ في روايته إعجابًا بعادة من عادات المجتمع إذا كانت هذه العادة تحقّق الترابط المجتمعيّ والتكافل، مثل عادة "الشعبنة" التي تسبق شهر رمضان.

كما أنّ باسم يتوازن في الحديث عن الإيجابيّات مقابل السلبيات؛ فالمجتمع الفلسطينيّ في رؤيته ليس مجتمعًا مدمّرًا تمامًا، بل يحتوي على بوادر الأمل الآتية من كلّ الأمكنة، سواء من النضال الميدانيّ، أو من الكتابة، أو من الرغبة في التغيير لدى الجيل الشابّ، فيقدّم الأمّ الطيّبة مقابل الأمّ العاهرة، والشهيد مقابل الانتهازيّ، ونموذج سناء موسى مقابل الإسفاف الفنّيّ، والإعلام الحرّ مقابل الإعلام المأجور والمدفوع، وهذا يحقّق معادلة التوازن الروائيّ كما هي في الحياة، فلا توجد ألوان حادّة في الحياة كما هو الأسود والأبيض، بل تفاعلات وتداخلات لا يمكن الفصل بينها.

يبحث باسم في روايته عن المرأة الحلم، ويقدّم عدّة نماذج للنساء، من تلك المتديّنة التي عشقها بطله أوّل مرّة في حياته، إلى المتحرّرة التي تريد علاقة مفتوحة من دون علاقة حبّ، إلى العمليّة المتمثّلة  بسكرتيرته أمّ الياس، إلى أخته العاشقة. بل إنّه يقدّم موقفًا متقدّمًا جدًّا من المرأة في الرواية، سواء بسلوك البطل تجاه النساء، أو بالفقرات التي كتبها على امتداد الرواية، والتي يصف فيها المرأة وموقفه منها. ووصفه، بالمناسبة، أبعد ما يكون عن وضع المرأة في القالب الجماليّ الأنثويّ التقليديّ؛ فهو حين يفعل ذلك، أحيانًا، سرعان ما يرتدّ ليربط جمال المرأة القادمة من حيفا بحيفا نفسها، فتكاد لا تميّز بين الاثنتين.

وعلى الرغم من أنّه يحمّل الاحتلال الإسرائيليّ مسؤوليّة كلّ المشاكل التي يعاني منها المجتمع الفلسطينيّ، كيانًا وأفرادًا، إلّا أنّ هذا، أيضًا، لم يدفعه إلى التطرّف؛ فهو يتساءل بعد أن قرأ رواية ديفيد غروسمان "ابتسامة الجدي" (1983) وأُعجب بها: "هل أنبذها كونها مكتوبة بحبر إسرائيليّ؟" كما يتساءل: "لو لم يكن هناك احتلال، هل كنت سأحبّ حيفا أكثر من نابلس؟ لو لم يكن هناك احتلال، هل كنت سأصبح شاعرًا؟ شكرًا للاحتلال إذًا".

وهذا الشكر الموجّه للاحتلال متبوع بمونولوج طويل عن الاحتلال وشراسته، إلّا أن هذا لم يمنع باسم من رؤية بعض الجوانب التي يمكن أن نستفيد منها من الاحتلال، لكن هذا، طبعًا، لن يجمّل وجه الاحتلال بأيّ حال.

قناعات باسم بمبادئه عميقة، ودائمًا ما كان يعزو الخطأ إلى التطبيق وليس إلى النظريّة، وعندما كان يناقش المتديّنين الذين يحاولون فرض رأيهم عليه، يقولون له: الله يهديك، فيردّ عليهم بهدوء: الله يهديكم أنتم.

وبطل باسم في الرواية ليس مطلقًا، بل يتحدّث عن إنجازات صغيرة وهزائم كبيرة، ويقول: "أرفض الاستماع إلى صوت المبادرات المغشوشة والمسمومة بالسلام المزيّف، أرفض الاستماع إلى صوت السلام النشاز الذي يطالب بتطبيع العلاقة مع المحتلّ الذي يريد أن يحرق إنسانيّتي، فكيف أسالمه؟" وبالتالي، فهو يطرح أسئلة جريئة تخصّ القضيّة الوطنيّة، ويعطي الخيار لأمّ صديقه، الشهيد أمجد، الذي اضطّرّوا لفتح قبره لتلقي عليه نظرة الوداع بعد أن استشهد وهي في الحجّ، ويقول: "إذا قالت لي أمّ أمجد صافح، سأصافح."

كما يتحدّث بوضوح عن خيبته من الأحزاب وتأثيرها السلبيّ في الشباب الفلسطينيّ، لكنّه يقترح حلولًا تتمثّل في المقاومة الشعبيّة، ويقول: "على فلسطين أن تحرّرنا لنحرّرها."

على المستوى التقنيّ، فإنّ استخدام باسم للمونولوجات الداخليّة تناسب مع حالة العزلة التي يعيشها بطل الرواية؛ فتداعي الذكريات من خلال المونولوج الداخليّ أشعرني بأنّني أعيش في تلك الشقّة، وأراقب صاحبها في ضجر وألم مجتمعين.

واللغة في الرواية شاعريّة جدًّا، ولا أعرف إن كانت هذه اللغة منطلقة من كون باسم شاعرًا في الحقيقة، أم أنّه اضطّرّ لأن يكتب بتلك اللغة كون البطل في الرواية شاعرًا، لكنّه، في الحالتين، قدّم الرواية عبر لغة شاعريّة ومجازات تليق بشاعر حقيقيّ، بعيدًا عن المقولات الجاهزة، وبعيدًا حتّى عن المجازات الجاهزة.

ليس غريبًا أنّ باسم لم يتعرّض للسجن في روايته، فهو لم يفعل ذلك في روايته الأولى أيضًا، ولم يفعله في ديوانه الثاني؛ فروحه خارج السجن تعيش القضايا كما يعيشها الناس، ولذلك فهي تطغى على تفكيره، وتظهر في رواياته.

وإن كان لي أن أنتهي بنقد صغير يتعلّق بفنّيّة الرواية، إذ فيها تراجع عن روايته الأولى، "مسك الكفاية" (2014)، إلّا أنّ نقدي هذا سرعان ما اختفى حين علمت أنّ هذه الرواية، وإن طُبِعَتْ بعد تلك الرواية بثلاثة أعوام، إلّا أنّها رواية باسم الأولى، فعليًّا، من حيث وقت كتابتها، لذلك فالتدرّج في الوعي والجمال بين الروايتين منطقيّ تمامًا.

من جهته تحدث يوسف خندقجي أخ الروائي باسم قائلاً إن له ديواني شعر طبعا في بيروت قدمهما زاهي وهبة، وروايتين هما مسك الكفاية ونرجس العزلة، وتحدث عن الصعوبات في طباعة الرواية والحصول عليها، حيث وصلتهم على شكل قصاصات ورقية مخربشة قاموا بطباعتها ونشرها.

وأكد يوسف أن العمل الروائي القادم لباسم خندقجي موجود الآن في غزة، حيث تم تهريبه إلى هناك مع أسير محرر من القطاع، وهكذا هو حال الأدب الفلسطيني القادم من داخل السجون.

من جهتها قالت عضوة المكتب السياسي لحزب الشعب عفاف غطاشة، إن حزب الشعب فخور كل الفخر بباسم خندقجي ليس فقط كأسير ومناضل بل كأديب فلسطيني شاب يقدم من عمره الكثير من أجل الوطن، مؤكدة أن هناك إيمانا وأملا بحرية باسم وبقية الأسرى الفلسطينيين.

بدورها قالت آمنة خندقجي، أخت الروائي باسم، إن من يقرأ نرجس العزلة وروايات باسم يرى فيها الكثير من التفاصيل المضحكة والمبكية، ورغم أن باسم سجين فهو لم يكتب عن السجن بشكل مباشر.

 باسم خندقجي شاعر وروائي فلسطيني من نابلس ولد عام 1983، يقضي حكماً ثلاثياً بالسجن المؤبد منذ عشر سنوات في السجون الإسرائيلية، التحق بقسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية ثم حوّل تخصصه إلى الصحافة والإعلام. اعتقل عام 2004 على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي وحكم على بالسجن لثلاثة مؤبدات عام 2005.

اخر الأخبار