"تركواز" الشاعر علاء الغول قيثارة الريح (عبد الكريم عليان)

تابعنا على:   22:02 2017-04-25

هل قرأتم من قبل ديوانا واحدا يفتتح كل قصائده بـ "عَيْناكِ"؟

إذا ما كتبَ السيّابُ "عيناك غابتا نخيلِ"، وكتب إيليا أبو ماضي "عيناكِ والسحر الذي فيهما"، وكتب نزار قباني " عيناك ليالٍ صيفية، وعيناك عصفورتان دمشقيتان"، وغيرهم كثيرون كتبوا "عيناك"، ربما يكونوا آلافا... إلاّ أنَّ الشاعر علاء الغول في ديوانه "تركواز" كان مختلفا عن الجميع، إذ يقدم لنا ديوانا كاملا بقصائده المائة جميعها تبدأ بـ عَيْناكِ.. هذه النار الشعرية، أو هذا الاحتدام الروحي لا نجده إلا عند القلة.. هذا الإبداع يمكنه أن يقهر عملية النَقْد ويجعلنا نُشرْ بالإعجاب حتى لو كنا في نفس الوقت نشعرُ بالاستهجان، وليس هذا فحسب، بل إنه حيث يظهر رغم أنه يكون مصحوبا بما يتنافى والعقل؛ فإنه يغطي بسطوعه كل الأشعار التقليدية المجترة من حوله بحيث لا ترى شيئا سوى روعته..! و"عيناك" هو الوتر الذي عزف عليه علاء كل قصائد تركواز.. لهذا أطلقت عليه "قيثارة الريح" وهي آلة موسيقية قديمة من وتر واحد حين يُعزف عليها تصدر نغمات متعددة مع نسمات الهواء، وتنسب هذه الآلة لـ "عوليس" وهو إله الريح في الميثولوجيا اليونانية.

هل عرفتم من قبل شاعرا يكتب قصيدتين يوميا وبشكل متصل؟

          إنه الشاعر علاء نعيم الغول، الذي بدأ مشروعه في أيلول من العام الرابع عشر بعد الألفين، وكنت أحسب أنه سينهي مشروعه "الألف قصيدة وقصيدة" بعد ألف يوم دون توقف، فاستمر يكتب يوميا قصيدته حتى القصيدة السبعمائة، وفي هذا الديوان "تركواز" فاجأني الشاعر بأنه كان يكتب قصيدتين في اليوم، وبشكل منتظم؛ فذيل قصيدته الأولى بيوم الخميس الفاتح لكانون الأول من العام السادس عشر بعد الألفين، والقصيدة الأخيرة من الديوان جاءت في يوم الاثنين الموافق للتاسع من الشهر التالي.. تماما خمسون يوم بمائة قصيدة، وبهذا يكون قارب من اكتمال مشروعه الألف قصيدة إن لم يكن قد اكتمل فعلا.. هذا الفيض والدفق الشعري المتسارع عند الشاعر علاء الغول لا يمكنه إلا أن يقهر الناقد ويعذبه وقد يحتاج زمنا أكبر بكثير من زمن الفيض لدى الشاعر كي يستبطن المرام ويكتشف الصور ومدلولاتها... 

          مجموعة "تركواز" هي المائة السابعة من قصائده الألف، جاءت بغلاف رومانسي جميل، يحمل لوحة للرسام النمساوي كريستيان سكلوChristian Schloe، وهو فنان موهوب يجمع بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي وتشتهر لوحاته بالغرابة والخيال المحيّر، إنه يخلق الوهم من الصفاء داخل تكوين غريب ومربك على الرغم من أنه قد يكون لا معنىً كبيرا وراء عمله، وهو لا يترك أي أدلة على التفسير ويترك للمشاهد تفسيرات كثيرة مثيرة للاهتمام، واحتمالات لا نهاية لها من الروايات التي نحلم بها، ولوحة تركواز هي لوحة كما سماها الفنان "Set your heart free دع قلبك حرا" وهي لفتاة جميلة ذات شعر خمري طويل يطير في الهواء وعيون سابلة وحالمة تخفي ألوانها، مع انحناء رأسها قليلا باتجاه شعرها المتطاير، تحمل في يدها اليسرى مرآة، أو علبة أنيقة بالقرب من قلبها، ينطلق منها للأعلى فراشات باللون التركوازي الذي يعبر عن الصفاء والفرح والأمل والاعتزاز بالنفس بثقة عالية ليغمرنا بفيض من الراحة والطمأنينة والهدوء.  إذن اختيار علاء لهذه اللوحة ليس عبثيا، إنها فاتحة الديوان وهي بدلالاتها تختصر كل شيء.

"عيناك" ليست وصفا، أو تغزلا في عيون المعشوقة أو الوطن، بل هي ذلك كله وهي مدخل للإحالات الإنسانية والحب المفقود ليس لدى الشاعر فحسب، بل لدى إنسان هذا العصر الذي صار فيه مجموعة كائنات كفت أن تكون بشرا، بل موادً نمطيةً خلقها التعليم القياسي، ومحشورة في المكاتب والورش أو المزارع والمصانع، وحتى الشرطة وما شابهها... جميعهم تثيرهم كل يوم وكل لحظة الأخبار المعلنة والتي تبثها في العالم المراكز الإلكترونية، بالطبع هذه الكائنات شوهتها وشيأتها الفضائيات الإعلامية وما شابهها من المواقع في الشبكة الإلكترونية بما تبثه من أخبارٍ وفنونٍ سوقية.. أما الفنان المبدع؛ فهو وحيد بحكم الواقع ومن خلال عجزه عن التكيف مع تلك الكائنات قد حافظ على الخصلة الإنسانية الأكثر قيمة.. وهو ليس بالشيء المضر إذا بالغ أحيانا وقطع أذنه ليكون أكثر قربا من الإنسان الحي، وليس من الآخر الشبيه بالموظف اليقظ وراء مكتبه الوزاري، أو الشرطي مثلا... هل رأيتم ضابط شرطة أو حتى كاتبا (موظفا) قطع أذنه لحبيبته..؟؟

إذن شاعرنا علاء يقدم لنا شعرا إنسانيا يحاول فيه إعادة الروح إلى الجسد، إنه يعيد لنا أنطولوجيا الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر فالوجود الحقيقي، لديه ينطلق من تحمل الإنسان لمسؤولياته واختياراته وقدرته على اتخاذ القرارات بوعي كامل بالأوضاع والظروف التي تحيط به. أما الوجود الزائف، فيرى هايدجر أنه الوجود النمطي الغارق في الحاضر، حيث ينفصل الشخص عن اختياراته الذاتية وإمكانياته الخاصة، ويصبح تابعاً لإرادات الآخرين، فيسقط في حالة الاغتراب التي ينعزل فيها عن ذاته ويتحول وجوده إلى شيء غريب عنه؛ فالحياة اليومية على سبيل المثال تفرغ الذات من وجودها الحقيقي، وتصبح مهددة من طرف الآخرين ولا تشعر بوجودها الحقيقي.. صيغة الأنا والأنتِ أو كاف المخاطبة عند الشاعر علاء في "تركواز" والتي امتلأ بها الديوان وكأنها أسلوبا خاصا، ليست للتعبير عن العاطفة والشجن بقدر ما هي مخاطبة نصف المجتمع الأنثى تأكيدا على شراكتها حياتنا، بل هي الحياة جميعها.. في التفاصيل اليومية هو يغوص عميقا لسبر أغوار الذات وصولا إلى تلك المنطقة الغامضة المشتركة بين الذاتيات التي تحتل الذات الواحدة... اختيار علاء لعيون حبيبته ليس إلا مدخلا لكافة الحواس، فالعين هي جهاز من أجهزة الحواس الخمسة التي يملكها الإنسان، لكنها أم الحواس جميعها.. وبها يتعرف الإنسان على كل الأشياء، وبدونها يفقد الإنسان أهم مدخلا للحواس الأخرى...ويكفي أن نقول أن العين هي رمز الحياة فمن يبصر يرى الحياة ومن لا يبصر تبقى الحياة لديه غامضة وتخفي عنه حقائق كثيرة لن يراها أو يدركها...

من يقرأ قصائد "تركواز" قد يستمتع ويستلذ بالصور الجميلة والمركبة الباذخة في تعبيراتها ومدلولاتها العميقة والمثيرة المحيرة.. لكنه يخرج منها كأنه لم يقرأ شيئا، سوى أنه يحمل في داخله الأمل والحلم والقلق.. بالضبط  مثل الانطباعات التي تتولد لدى مشاهد للوحات سكلو.. هي الرسالة الرئيسة التي يريدها علاء أن تصل للمتلقي، إنها رسالة تربوية بامتياز، وهي لا تخص مجتمعا بعينه، بل تخص الإنسان أيما كان، كيف لا..؟ فالإنسان يضع لمرات عدة الفوضى فوق النظام، والحرب فوق السلام والخطيئة فوق الفضيلة والتدمير فوق البناء.. هذه هي حالة الحقيقة العبثية التي يعيشها الإنسان، لكن الشاعر يسحبنا إلى حياة أخرى مفعمة بالأمل من خلال الحب، ليؤكد لنا من خلال رؤيته وأسئلته الاستنكارية كنفي للواقع، وأسئلته الواقعية التي تحثنا على البحث والإجابة، بدلا من الهروب إلى العبث.. رغم التأكيد على "الحياة" التي جاءت ضمنيا ومجازيا في كل قصائد الديوان، إلا أننا يمكننا رصد تعبير "الحياة" بكثافة في تركواز ..

الشاعر يؤكد لنا أن الحياة هي الهدف كما أكد لنا أنها هي العيون، ورغم أن الحياة مليئة بالتناقضات إلا أن اللذة فيها أننا كيف نحيا وسط هذه المثيرات وليست المتناقضات.. كيف لا وإنسان اليوم في حالة توتر دائم، وهو يقف وجها لوجه أمام الدمار والموت والتعذيب والوحدة. إنه إنسان الحالات المتطرفة، وقد بلغ أو على وشك البلوغ، نهاية وجوده. وشاعرنا في تركوازه عندما يصف أو يفحص، لا يمكن أن يكون شيئا آخر عدا كونه شاعر الحالات الاستثنائية.. إن الشاعر علاء قد أجاب على معظم أسئلة الوجود.. وكما يسميه هايدجر (وجودي أصيل) حيث القلق هو الذي يأتي بـ (الأنا) إلى هذا الوجود الذي يسميه هايدغر (الوجود- في- العالم)، وقصائد تركواز جميعها تؤكد حضور الإنسان بفعله وبسكولوجيته، بحلمه وبآماله وتطلعاته، ومن هنا جاءت المشاركة الفعلية لمحاكاة المشارك الحقيقي لاستمرار الحياة بكينونتها وصيرورتها في صورة الأنثى الحبيبة والزوجة المدينة أو الوطن.

قصائد تركواز كما امتلأت بصورة الحياة وتعبيراتها للتأكيد على وجودية الإنسان، تكررت فيها صورة البحر كثيرا في الديوان وربما هي صورة رئيسية تحتل خيال الشاعر وكينونته ليست في مجموعة تركواز فقط ! بل هي صورة قد نجدها في معظم قصائد علاء وشاعريته، وإذ نشير هنا لبعض من صورة البحر كما وردت في قصائد تركواز قد يأتي باحث آخر ليجمع كل صور البحر في شعر علاء الغول. صورة البحر التي نركز عليها هنا.. ليست كل شيء في ما يتعلق بالبحر ومدلولاته أو مكوناته وملحقاته، بل ركزنا فقط على بعض الصور التي حملت تعبير البحر.. هكذا تأتي صورة البحر في شعر علاء لتؤكد ما ذهبنا إليه في تحليلنا المتواضع؛ فهو يرى في البحر حبه وحلمه وأمله، يرى فيه مدينته ووطنه وملجأه وكينونته، يرى فيه ذاكرته وأنثاه التي يحب ويرى فيه حكايات العشاق، يرى فيه الصيف وكل الفصول، لهوه وتسليته ومناجاته، يرى فيه مخلصه من العذابات، ويرى من خلاله الرحلات والسفر.. يرى فيه جزر الأحلام.. ويرى فيه التاريخ والجغرافيا.. البحر حبه وزاده وزاد حبيبته..

شاعرنا في تركواز كما في باقي أشعاره يختار كلماته بدقة وعناية فائقة وثقافة واسعة يسحبنا لنبحر عميقا لنتنفس هواء الفكر الروحي والتاريخي والفني من خلال الأسطورة التي يسقطها في شعره كدلالة على واقعنا، نعم! إنه الفنان الشاعر الذي لا يبحث، بل يجِدْ ويخلق.. ثم يلقي علينا مسئولية كبيرة في البحث مما قد وجدَ وخلقَ.. رغم أنني ضد التوضيح أو الإشارة في الغموض الذي قد يتلبس المتلقي في الفهم؛ فالمتعة واللذة تكمن في أن يبحث المتلقي عن ما يروم إليه الشاعر..

لا أبالغ القول بأن الشاعر علاء، قبل أن يكتب الشعر قد استلهم مجمل التراث الأدبي، والشعري منه بشكل خاص، فاختار لشعره تجربة جديدة خاضها هو وحده هي، أولا: السرد الشعري، وإن كان الكثير من الشعراء جاء السرد في أشعارهم بشكل مقتطف، أو بعض القصائد.. إلا أن مجموعة تركواز، جميعها قصائد سردية من المتخيل لدى الشاعر، بل شكل الديوان لديه كتلة واحدة تحت حالة واحدة، وإن تقسمت إلى مائة موضوع، لكنها تصب جميعها للحالة الشعرية التي احتلت كيان الشاعر، وهو ما يسمى في الدرس الأدبي حديثا "ديوان الحالة"، وثانيا: مجموعة قصائد "تركواز" التزم الشاعر فيها بنية التدويرـ إن جاز لنا التعبيرـ مع الشعر التفعيلي، حيث لا ينتهي السطر الشعري بانتهاء التفعيلة أو مجموعة التفاعيل، وإنما ينتهي بانتهاء بياض الصفحة ليكمل مع السطر التالي، وهكذا فالديوان قصيدة واحدة مطولة، يُبنى فيه مبدأ التجريب المعتمد على العمل الواحد بوصفه سياقا متحدا وإن تعددت تقسيماته، وثالثا: ليس من السهولة على الدارس نقل جملة من أشعاره، إذا ما أراد الاقتباس فعليه أن ينقل القصيدة كاملة، أو الإشارة إليها بالعنوان والرجوع إلى الصفحة، هذه سمة مميزة خاصة بعلاء وهي لم تتوفر عند الشعراء الآخرين.. وهنا أيضا من الصعب، بل من المستحيل على المتلصص أن يأخذ من قصائده جملة، أو عبارة.. شاعرنا يعمل على خلق لغة جديدة وشكلا جديدا يميزه عن الآخرين، وتجعله يحمل صوتا خاصا به ، وبصمة لا تشبه سواها..

أخيرا ما قدمناه ليس إلا إشارة أو إشارات سريعة لشعر علاء تقودنا لدراسة أعمق نستخرج من محاراتها اللؤلؤ، ولا يمكننا إلا أن نقول: إن الأدب هو الميدان الأكثر حرية في هذا العالم لتكسير البنى التقليدية وقيمه وماضيه وحاضره، والبناء عليه ببنى أكثر قرباً من عالم الإنسان الطبيعي القريب من عالم الطبيعة وبقية الكائنات. بمعنى أن نعري البشاعة فنياً بعيداً عن التقرير التاريخي أو غيره عبر الأدب لنبي أشكالاً جمالية مكانه. فالإبداع هو الذي يفسح المجال للذهن أن يخرج عن التقليد، ويذهب بالخيال إلى عوالم أجمل وأكثر رقياً. وهذا الإبداع وحش جميل كاسر يقتحم المألوف والمعلن والمكرر ويكسره، يكسر المقدس والعوالم القديمة والطقوس المبرمجة ليبني على أنقاضه عالماً آخر، فلم يعد الإنسان وحده مظلوماً من الإنسان في هذا العالم نتيجة سلوكه وممارساته العدوانية، إنما هناك اعتداء على الحجارة والأنهار والقمر والغلاف الجوي والسماء والأرض والطقس. إذاً هناك ميادين كثيرة على المبدع تناولها وتعرية النشاط الإنساني القائم على التدمير الممنهج لكل أشكال الحياة، أن يكون خروجاً عن المألوف. فالأدب في محنة حقيقية، ومن ليس لديه مسوق قوي عليه أن يفكر جيداً قبل العمل، فإما أن يكون عملاً مميزاً وجديداً، ويكسر جدران التقليد أو يصمت ويجلس في مكانه. هناك تلوث أدبي يعاني منه الأدب نتيجة ابتذال العمل واستسهال الكتابة سواء في الشعر أو القصة أو الرواية. وهذه الأعمال يجب ألا تكون لحظة انفجار خاطر أو ضغط أزمة نفسية أو اجتماعية أو تاريخية، إنما ثقافة وبحث جاد وإطلاع عميق على ثقافات العالم بكل ألوانها سواء الفنية أو الأدبية أو الاجتماعية أو التاريخية. فلا يغرنكم الأسماء المشهور، فإنها ستنتهي بموت أصحابها، وستبقى الأسماء البراقة كالذهب الصافي مثل شكسبير وهوميروس وجلجامش وسرفانتس والطيب الصالح وغيرهم.. وكلنا يعرف أننا اكتشفنا عظمتهم ليس في زمنهم، بل ربما بعد موتهم بكثير.. نأمل أن يكون علاء واحدا منهم.. مبروك يا علاء...

 

 

 

اخر الأخبار