الجنرال و"المستقبل"

تابعنا على:   11:59 2016-10-23

سوسن الأبطح

لا شيء أكثر سوريالية من المشهد اللبناني، بعد دعم الرئيس سعد الحريري، ترشيح الجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية. ليست المرة الأولى التي يعاد فيها خلط الأوراق، وتشكيل التحالفات، لكن تكرار العبث السياسي لا يعفي المتفرج من الدهشة ولا يحرمه الاستغراب.

تتعجب وأنت ترى، سمير جعجع يستعجل انتخاب ميشال عون، لا، بل هو متحمس حتى يكاد يطير من الفرح، ومتأكد من فوز عدوه الأشرس ومنافسه الأكثر ضراوة، معتبرًا هذه الخطوة «بداية لتطبيق اتفاق الطائف»، وإيذانًا بانتخاب رئيس «صنع في لبنان». سعد الحريري يدعم ترشيح ميشال عون من «بيت الوسط» باحتفاء جامع لم يوفره لأي من المرشحين الذين سبقوه، وعلى رأسهم سليمان فرنجية. عون العصبي المستفز بات هادئًا محاورًا طويل البال، لطيف الطلة، يزن كلماته بميزان الذهب. نبيه بري، يكاد يغادر 8 آذار غضبًا، ويتخلى عن مشاركته في الحكومة المقبلة، وهو يعلن أنه سينضم إلى المعارضة. صاحب فكرة طاولة الحوار وعرّابها يغادر لبنان ولن يعود إلا عشية جلسة الانتخاب، ربما هربًا من مزيد من الحوارات التي لم يعد يريد أن يسمع بها. ترى من يعارض ماذا في لبنان اليوم؟ يكاد بعض جمهور تيار «المستقبل» ينضم إلى جمهور «حركة أمل» في تأييد وحب الأستاذ نبيه احتجاجًا على خيار الشيخ سعد. وسليمان فرنجية الذي كان يردد أن لا كلمة له بوجود الجنرال عون، وأن كليهما حال واحد، قد يجد نفسه مرشحًا منافسًا وحيدًا له، في انتخابات رئاسة الجمهورية، وهذا احتمال لا يزال واردًا. فريق 8 آذار الذي طالما سخر من تشرذم 14 آذار وانفراط عقده، وخلافات أقطابه المعلنة والخفية، يتجرع الكأس نفسه. «حزب الله» ضائع بين حلفائه المتخاصمين، لا أحد يعرف كم بمقدوره أن يعيد تقريب صفوفهم، أو ردم الشقاق المستفحل بينهم؟ جماعة «تيار المستقبل» صاروا جماعات، وآراء وتيارات. نواب الرئيس سعد الحريري الذين كانوا ينتظرون إشارة منه، يتمردون حتى أمام الكاميرات، ويضربون عن التصفيق له. فهذا يعلن أنه سيضع ورقة بيضاء في الصندوق، وذاك يريد انتخاب سليمان فرنجية، وأشرف ريفي يعلق اليافطات الاحتجاجية، ويبقى سعد الحريري ماضيًا معهم أو من دونهم. لكن مهمته اليوم تحتاج منه صلابة استثنائية، وسط معارضة تأتيه من الشارع تارة، ومن كتلته النيابية تارة أخرى.

لم تكن الانتخابات يومًا، أمرًا سهلاً في لبنان. لعبة الحسابات الضيقة تزيدها تعقيدًا. لو كانت الخلافات دائمًا على المبادئ لسهل تذليلها. عليك أن تقرأ في خفايا المصالح الشخصية، والمطامح السلطوية، ولا بأس لو عرفت بعضًا مما يود اصطياده كل منهم من مغانم مالية أو سلالم توصله إلى مكان أرحب في التركيبة السياسية. اللحظات المفصلية، فرصة لإعادة التموضع، واشتراط بنود، وتحصيل مكاسب.

الكلام هو على رئاسة الجمهورية، والعين على الحكومة، والحصص الوزارية، ومن ثم الانتخابات النيابية وكيف ستكون تحالفاتها، وعدد الكراسي التي يمكن أن يقطفها كل قطب أو تيار، عند إعادة تشكيل المجلس التشريعي.

التوقعات تعطي لميشال عون أغلبية تفوق 80 صوتًا مقابل نحو 26 لسليمان فرنجية في حال تنافسا معًا، دون احتساب الأصوات المترددة أو مجهولة المصير، وهو ربما ما يستدعى تفاؤل البعض وانتظار بعض آخر، كي تنضج الصورة. لكن الذين ناموا رؤساء في لبنان واستفاقوا على مفاجأة غير متوقعة لم يكونوا قلة. هذا ما عاشه ذات يوم حميد فرنجية، ومخايل الضاهر، وكميل شمعون وغيرهم.

المتضررون كثر، والمرشحون باقون رهن المساومة، حتى مرشح وليد جنبلاط الرئاسي، الذي سقط من الذاكرة هنري حلو، لا يزال ترشيحه قائمًا. المفاوضات المحمومة تقتضي عدم التسرع في تقديم التنازلات. الراغبون في رئاسة الوزارة لن يحلو لهم رؤية سعد الحريري خاطفًا لها لسنوات مقبلة. الانتظار صعب والتسليم بالهزيمة مرّ، كما أن التخلي عن المنازلة وهي في منتصفها لمن المستحيلات.

تبًّا للانتخابات، لعلها أسوأ ما جلبه الغرب قبل التخلي عن عشائرية تحكمها العصبيات، وقبائلية يحسم مواقفها زعماء الطوائف. هكذا تتحول الانتخابات إلى لعبة صفقات، وتجاذبات وعمليات حسابية، يلجأ المتصارعون خلالها إلى الترغيب والترهيب، وحتى التهديد بالحرمان من خدمات أو تنفيعات. من رئاسة الجمهورية، إلى انتخاب أصغر ممثل للطلاب في صف جامعي، هو الأسلوب عينه، الذي يجمع بين الصندوقة الانتخابية، والمونة على الطريقة العشائرية الأبوية.

ثمة إيجابيات رغم أن كل الدروب ستؤدي في لبنان إلى تركيبة جديدة في السلطة، من أحجار اللعبة ذاتها، والوجوه نفسها، مع ميل طفيف إلى جهة هذه المرة، وغيرها في مرة مقبلة. المأمول هو الخروج من الفراغ إلى الامتلاء، حتى ولو كان معتكرًا. المرحلة لم تعد تحتمل مثاليات «الشعب يريد إسقاط النظام»، و«كلن يعني كلن» التي أطلقتها الحركة المدنية راغبة في التخلص من الطاقم السياسي برمته.

أمراء الحرب وزعماء الطوائف، سيتنازعون على اقتسام قالب الحلوى الشهي، طوال الأسبوع المقبل، وسيكون الصراع مستشرسًا. إن رضي كل بقطعته، ينتخب الجنرال عون في الدورة الأولى أو الثانية، لا فرق.

وربما لا فرق كبيرًا أيضًا بين أن يصل إلى سدة الرئاسة سليمان فرنجية أو ميشال عون، فلكل سلالته وورثته، ومطامحه، وللناس الصبر بانتظار أن يصبح للانتخابات معنى آخر، غير تذليل الخلافات على حجم المغانم.

عن الشرق الأوسط

اخر الأخبار