الغرور كمرضٍ سياسى

تابعنا على:   13:03 2016-09-26

جمال أبو الحسن

لو كان لى أن أذكر جرثومة واحدة كانت السبب فى الخراب والتخبط الذى حلَّ بمصر طوال السنوات الأربع الماضية لقلتُ بلا تردد إنها الغرور. لا مبالغة فى هذا، ولا أستثنى أحداً أو جماعة أو تياراً من هذا الداء الخبيث الذى ضرب مصر من أقصاها إلى أقصاها.

لا ينصرف الغرور إلى الاعتداد بالذات أو العجب بها. أصل الغرور هو «الاكتفاء بالذات». الثقة المطلقة فى القناعات. المبالغة المرضية فى تقدير القدرات. رؤية الذات كمركز للكون تدور فى فلكها النجوم والكواكب الأخرى، ثم الانطلاق من هذا الفهم لتغيير العالم المُحيط.

فى عمق الثورات شعور مبالغ فيه، ومرضىٌّ على نحو ما، بالقدرة المطلقة على تغيير مسار التاريخ. فى عُمق الثورات شعورٌ بأن من يقومون «أشخاصٌ تاريخيون». فى عُمق الثورات غرور قاتل. استكبارٌ وتعالٍ على معطيات الواقع. هذا الغرور هو ما يُمهِد للثورات نَسْفَ الواقع القائم. هذا الغرور هو ما ينسِف الثورات نفسها- فى أغلب الحالات- بعد ذلك!

لم تُفلِتْ يناير 2011 من هذا. من الأيام الأولى ظهرت شعارات «الثورة التى أبهرت العالم». كان العجب بالحدث والفخر به يكبر وينتفخ بينما الحدث نفسه لم يبلغ طور الاكتمال. دخل الأمر فى باب المرض النفسى عندما ظهرت لافتات فى مطار القاهرة تحمل «أقوالاً مأثورة» لزعماء عالميين- كأوباما وبرلسكونى- يتحدثون عن شباب مصر الذى علمَّ شباب العالم!

تحركت مسيرة الغرور الظافرة بسرعة مهولة فى الشهور الأولى لانتفاضة يناير. تصاعد نهجٌ- روجت له تيارات بعينها تصدرت المشهد- بأن النظام السياسى والاجتماعى المصرى ينبغى أن يُنسَفَ من جذوره بين عشية وضحاها. كان هذا هو المُحرِك وراء شعار «يسقط حُكم العسكر». تعالى صوت نغمة أخرى أخبث وأضل: الأجيال السابقة ضيعت مصر بخنوعها، وآن الأوان أن تتنحى وتترك المجال لشباب شُجاع يمتلك وحده الرؤية المُثلى لتغيير مصر.

لو بحثت فى أصل هذه الاتجاهات لوجدته فى ذلك الغرور القاتل الذى يهيئ للبعض أنه يتملك مفتاحاً سحرياً للخلاص. أنه يرى شيئاً لا يراه الآخرون جميعاً. أنه يعرف- وحده- سواء السبيل. أن مهمة الجميع تنحصر فى مؤازرته والسير خلفه.

هكذا ولدت ثورة بلا زعيم، وبآلاف الزعماء فى الوقت ذاته.

الزعماء فى كل مكان: فى الميادين. على صفحات الفضاء الإلكترونى. أمام الشاشات. فى الاجتماعات الحزبية. فى مقالات الصحف.

تأمل فى الرسائل التى كان ينقلها كل هؤلاء. حاول أن تستعيد فى ذاكرتك صلفهم وامتلاءهم بالثقة وهم يوجِّهون الشعب، وكأنهم- جميعاً- مرشحون محتملون لرئاسة الجمهورية، وليسوا أصحاب رأى يصيب ويخطئ.

من أين يأتون بهذا الصلف؟ كيف تفجرت ينابيع الغرور القاتل والنرجسية المقيتة.. هكذا، مرة واحدة فى بر مصر؟

أطرح تفسيرين أحدهما نفسى وتربوى، والآخر فكرى ومنهجى.

فيما يتعلق بالتربية؛ قطعاً هناك شىء ما خطأ فى الطريقة التى نُنشئ عليها أبناءنا. ثمة مبالغة- منذ سنوات التكوين الأولى الحاسمة- فى التأكيد على معانى التفرد والتميز، غالباً بلا أساس. هناك تغذية مستمرة للشعور بالذات، وإغفال شبه كامل للشعور بالمجتمع والآخرين.

فيما يخص جيل الألفية بالذات (الذى وُلد أبناؤه فى الثمانينيات والتسعينيات)، تبدو المشكلة عالمية. ابن هذا الجيل يتفحص هاتفه النقال كل خمس دقائق للاطمئنان على حصيلته من «اللايكات». ليتأكد من أن آخر أطروحاته عن الحياة وأحدث تعليقاته على الوضع السياسى، أو آخر «سليفى» له، قد لاقت ما تستحق من الإعجاب والانبهار. نرجسية قاتلة.

فى مصر يشعرُ أبناء هذا الجيل بأنهم امتلكوا من الأدوات والرؤية ما يجعلُ الأجيال السابقة- بالضرورة- مُنتهية الصلاحية. فى قاموسهم أن كل من ولد قبل عصر الإنترنت هو «حفريةٌ» خارج التاريخ. فى فهمهم أن عصر المعلومات قد نزع عن كل صاحب خبرة فضيلة التميز والتفرد. فلو أننا نحتاج إلى خطة لإصلاح جهاز الشرطة، مثلاً، ما علينا سوى أن نستفتى «جوجل» ليمدنا- بنقرةٍ واحدة- بعشرات الدراسات عما جرى فى بلاد الدنيا كلها فى هذا الباب. بهذا المعنى، كل شخصٍ امتلك هذه الأداة هو خبير لا يُبارى. خبيرٌ فى كل شىء، وأى شىء.

هذا عن التربية والتنشئة، فماذا عن نهج التفكير؟

الحقيقة أن «غرور الفكر» أبعد أثراً وأخطر تأثيراً من النرجسية الفردية. هذا الضربُ من الغرور ليس وقفاً على جيل، وليس مقصوراً على جماعة سياسية. أصل «الغرور الفكرى» هو النزوع إلى «اختراع العجلة» من جديد. الحماس «الصليبى» لإعادة بناء المجتمع على أساس مُتخيل. الاعتقاد الجازم بأن التركيبات السياسية والاجتماعية ليست وليدة تطور تاريخى معين، وإنما هى- ببساطة- تعكس واقعاً غلطاً، ويجب تغييره. يجب تغييره الآن وكُلياً، ودون مهادنة أو مساومة.

هذا الغرور الفكرى تشترك فيه تيارات اليسار والإسلاميين على حد سواء. كلا التيارين يعِدُ بمجتمع مختلف كُلياً. رُبما يمتاز الإسلاميون على اليسار بالتصاقهم بمُعطيات الواقع، وانطلاقهم منه بصورة أو بأخرى (ومن هنا نجاحهم فى الانتخابات). غير أن الأصل يظل واحداً: نرجسية قاتلة، وشعور طاغ بامتلاك الحقيقة المطلقة. اقتناع راسخ بحتمية «تفجير» البنى الاجتماعية والسياسية القائمة من أجل الوصول إلى النموذج المُتخيل.

ما يُزعج هو أن الحُكم نفسه يُظهِر هو الآخر أعراضاً تُشير إلى وقوعه فى هذا الشرك القاتل. ثمة نزوعٌ لا تخطئه عين لامتلاك الحقيقة المُطلقة. هناك ميلٌ غير محمود لإعادة اختراع العجلة، وانشغالٌ- لا محل له فى ظرفنا القائم- بـ«الإنجاز التاريخى» المُتفرِد. وأخيراً، ثمة ثقة مُطلقة بأن «فئة بعينها» هى من تملِك دون غيرها المقومات السياسية- بل الأخلاقية والوطنية- لإدارة شؤون البلاد جميعها.

والحال أن النُظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة لا تقوم وتترسخ كقطيعة حادة مع ما سبقها، وإنما كامتداد لها بالبناء عليها وإصلاحها. لا مجال هنا لاختراع العجلة. لا فائدة تُرجى من وعود بقفزات كُبرى. يظل الإصلاح التدريجى الذى ينطلق من الواقع، دون أن يكون أسيراً له، هو النهج الأسلم والأشجع- بل الأسرع- لتغيير المجتمعات ودفعها للأمام.

عن المصري اليوم

 

 

اخر الأخبار