د. أحمد يوسف .. المأزق الفلسطيني: هل إلى خروجٍ من سبيل؟

تابعنا على:   19:36 2015-10-06

أمد/ كتب  د. أحمد يوسف: ما تزال الحالة الفلسطينية المتعثرة في أزماتها السياسية تعيش مأزقاً خانقاً، يستدعي الكثير من الحوارات والنقاش بين كوادر النخبة وداخل المؤسسات الفكرية ومراكز الدراسات، بحثاً عن المخارج والحلول.. اليوم، وبالرغم من مرور أكثر من ثمان سنوات على الانقسام، والذي كان - بحق - مأساة وطنية يتحمل الجميع مسئوليتها، إلا أن هذه الحالة الكارثية ما تزال تراوح مكانها!!

وفي سياق البحث عن رؤية للخروج، وطريقٍ للخلاص من المأزق، عقد مركز (بال ثينك للدراسات الاستراتيجية) ومؤسسة (فريدرتش إيبرت) مؤتمراً بعنوان "أزمة القضية الفلسطينية: استراتيجية الخروج من المأزق"، شاركت فيه شخصيات سياسية وفكرية؛ فلسطينية وعربية وغربية، وقد تناولت المداخلات وجهة النظر تجاه انسدادات الواقع القائم، وما الذي يمكن فعله فلسطينياً ودولياً كسبيل لتجاوز حالة الاختناق الوطني، واستعادة زمام المبادرة؟

حاولت جهدي استقراء هذا الواقع، وعرض ما أراه طريقاً آمناً يمكن المرور عليه، والوصول إلى غاياتنا الوطنية المرجوة، وهو ما مثل مساهمتي في اللقاء، الذي كان تشخيصياً بامتياز، وقد جاءت الخلاصات بالقدر الذي قدَّم خارطة للطريق، ونجح في وضع النقاط على الحروف، لكنَّ المهم أننا جميعاً بانتظار "حادي العيس"، الذي يأخذ بخطام القافلة، ويمضي بنا قُدماً باتجاه تحقيق طموحات شعبنا العليا.

المشهد الفلسطيني: ضرورة المراجعة السياسية العاجلة

إن واقعنا السياسي المتردي منذ قرابة قرن من الزمان، والذي كانت ثلث أحداثه ووقائعه قبل النكبة عام 1948م، والباقي هو – بالطبع - ما عايشناه وأدركناه من خلال الدراسة والبحث والتحليل، هذا الواقع يحتاج إلى قراءة وتأمل.. اليوم، نحن شهود عيان على الكثير مما وقعت فيه القيادات من أخطاء، وما ارتكبه البعض من خطايا، تسببت في انحراف البوصلة، وأدت إلى تنكبنا الطريق، وابتعاد الركب عن السبيل.

اليوم، وبعد أكثر من سبعة وستين عاماً قضيناها ونحن نعاني شظف العيش، بسبب التهجير وقسوة الظروف في أماكن اللجوء والشتات، والاخفاق المتكرر في مساعي توحيد الصف الوطني تحت راية واحدة ورؤية جامعة، للأسف ما زلنا - حتى الآن - ندفع أثماناً باهظة جراء هذه الحالة من التخبط، وفقدان القائد والدليل.

الانقسام والحصار والاحتلال من ناحية، وثلاثة حروب ألقت بأوجاعها وتداعياتها الكارثية على كاهل غزة من ناحية أخري، هي اليوم بانوراما المشهد الفلسطيني.

في مطلع التسعينيات، وبعد مؤتمر مدريد في 30 أكتوبر 1991م، والذي جاء عقب حرب الخليج الثانية، وجدت القيادة الفلسطينية نفسها غارقة في بحر من الأزمات، الأمر الذي أجبرها على الدخول في مفاوضات سرية في أوسلو، بمعزل عن المفاوضات العلنية التي كانت تجري في واشنطن برئاسة د. حيدر عبد الشافي (رحمه الله).. ولعل الأسوأ من المفاوضات في ذلك الوقت، كان هو سريتها المطلقة، وعدم كفاءة الفريق المفاوض، وغياب الوضوح في استراتيجية التفاوض، وآليات تنفيذ الاتفاق، حيث انتهت الأمور باتفاقية أوسلو بشكلها الأمني، والتي يعتبرها الخبراء بمثابة الدستور الذي حدد للسلطة وحركة فتح ومنظمة التحرير المسار المستقبلي.

لقد ارتكبت القيادة الفلسطينية خطأً استراتيجياً في مفاوضات أوسلو، حين أخذت القضية بعيداً عن الحاضنة الدولية، وعندما قامت كذلك بتأجيل التفاوض على القضايا المصيرية (الثوابت الوطنية) إلى مرحلة مفاوضات الحل النهائي. وجاءت أوسلو – للأسف - خارج سياق التوافق الفلسطيني لتأسيس برنامج تصالحي، إلى برنامج وسياسات أمنية تتعارض مع برنامج المقاومة، كما وضعت حداً للمطالبة بتطبيق القرارات الدولية، وأصبح النظام السياسي الفلسطيني مشوهاً، وذلك بسبب غياب الوعي السياسي والقانوني والإداري، وأصبحت الصلاحيات متنازعاً عليها بين قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ومجلس الوزراء.

اعتمدت القيادة الفلسطينية قرارها بالتصدي للمقاومة، والعمل على تدجينها وكسر شوكتها، فقادت أجهزتها الأمنية عام 1996م سلسلة من الحملات والملاحقات لكوادرها المقاتلة، وفق ما نصَّت عليه اتفاقية أوسلو، وبالتالي أظهرت مدى ارتباطها – طوعاً أو كرهاً - بالاحتلال الإسرائيلي، ومدى ارتهانها للقوى الخارجية، وبالتالي كان مشهد السلطة أمام الشارع الفلسطيني بأنها قيادة على الشعب، وليس قيادة له. كما أن الفترة التي أعقبت تشكيل السلطة، أظهرت حجم التشوه والفساد في إدارتها لملفات الاقتصاد والأمن والسياسة، إضافة لتعثر مسار المفاوضات مع الاحتلال، والمناكفات المستمرة بين فصائل العمل الوطني، والتيارات الإسلامية العاملة على الساحة.

وتأسيساً على ما سبق، لم تستطع القيادة الفلسطينية إدارة العملية التفاوضية بشكل ناجح، كما فشلت في بناء اقتصاد مقاوم بمعزل عن التبعية للاحتلال الإسرائيلي، بل على العكس تماماً، قامت بتوقيع بروتوكول باريس الاقتصادي، والذي كرّس تبعية الفلسطينيين اقتصادياً لإسرائيل من ناحية، وحرمهم من تصدير منتجاتهم الزراعية من ناحية أخرى.

كانت الانتخابات الفلسطينية في يناير 2006م محطة مهمة للملمة الكل الفلسطيني، بحيث يكون الإسلاميون جزءاً من الخريطة السياسية، والتمكين للصف الفلسطيني من استعادة وحدته تحت مظلة منظمة التحرير، ولكن – للأسف – كانت المناكفات السياسية والأساليب التي تعامل بها الطرفان؛ فتح وحماس، مع بعضهما البعض مخيبة للآمال، وخارج سياق توقعات الشارع الفلسطيني، حيث أحكمت حركة حماس قبضتها على الحكم، ولم تنجح – رغم المحاولة - في بناء شراكة سياسية وتوافق وطني، وكانت خطيئة بعض الجهات داخل حركة فتح هي في تعمدها العمل على إفشال حكومة حماس، وسد الأبواب أمام سفينتها، وتعمد حرمانها من الاقلاع.

 

المواجهات الفلسطينية المسلحة: الحدث الذي قسم ظهر الوطن

في يونيه 2007م، كانت الأحداث المأسوية والكارثة الوطنية، والتي أعقبتها ثمان سنوات عجاف، دفعنا جميعا ثمنها، وخسرت معها القضية إنجازات – ولو محدودة - كنا حققناها. كانت تلك الأحداث الدامية خطيئة كبرى، ونكبة جديدة حلَّت بالشعب والقضية، وتقع فيها المسئولية على الطرفين؛ فتح وحماس، من حيث غياب الحكمة وسوء التدبير من ناحية، والعداء والمزاجية السياسية والعناد التي صبغت أداء الرئيس (أبو مازن) وبعض بطانته من جهة أخرى.

لقد شهدت مرحلة الانقسام الفلسطيني وما بعدها جملة من الإخفاقات وخيبات الأمل، والتي هي - بالطبع - بفعل تركيبة النظام السياسي، أهمها: حكم الفرد وغياب المرجعية الوطنية، وانعدام الاتفاق حول رؤية واحدة لمشروعنا الوطني، وأيضاً فقدان البرنامج الوطني المشترك، إضافة لتعطيل الحوار الوطني، وغياب ثقافة التعددية السياسية وتقبل الآخر عند كلٍّ من حركتي فتح وحماس، كما أن ارتهان القرار الفلسطيني بشكل عام لتوجهات الأطراف الخارجية هو وراء استبداد كل الأطراف، ورغبتها في التفرد باتخاذ القرار.

باختصار: لا يمكن استثناء أو تبرئة أحد من خطيئة ما وقع، فحركة حماس كجزء من القيادة الفلسطينية وسلطة القرار ارتكبت هي الأخرى جملة من الاجتهادات الخطأ، منها: أنها دخلت الانتخابات بكل ثقلها، وألقت بكامل أوراقها حين فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وارتضت تشكيل الحكومة العاشرة بمفردها، دون إدراك لأبعاد ما كان يبيت لها من مكائد، ويتهددها من أخطار رتبها البعض لها، حيث كان المطلوب هو تدجين الحركة، وتحويل مسارات عملها من العمل الدعوي والفعل المقاوم إلى كواليس الحكم ودهاليز السياسة. بالطبع، لم تتمكن حركة حماس من التكيف مع وضع الحكم الجديد، وبالتالي ظلت تراوح مكانها بطريقة مرهقة، بحيث تشتت جهودها في حسبة غير متوازنة بين متطلبات الحكم، ومقتضيات الدعوة، وتبعات أفعال المقاومة.

لم تتمكن حركة حماس - أيضاً - من الاستقواء بالفصائل المناهضة لحركة فتح، والتي لها تحفظات على قرارات منظمة التحرير، كما أنها لم تنجح في استيعاب اليسار وعمل تشبيك وتقارب معه، علماً بأن الأخير لديه الكثير من العلاقات وأشكال التواصل مع المجتمع الدولي، ويمكن الاعتماد عليه.

التفرد بالحكم: الحالقة وفساد ذات البين

إن واحدة من أكثر الأخطاء القاتلة، والتي تحولت بفعل تأثيراتها القوية على واقعنا السياسي إلى خطيئة ندفع ثمنها اليوم جميعاً، هي حالة التفرد بالقرار، والتي منحناها بأيدينا طائعين إلى شخص واحد، بغض النظر عن أهليته ووطنيته وانتمائه السياسي، وذلك حين سمحنا له – كفرد - بامتلاك كل الصلاحيات، بحيث غدا هو الأول والآخر والظاهر والباطن في صياغة حاضرنا ومستقبلنا السياسي!! اليوم الرئيس - شئنا أم أبينا - ومع كل التقدير لمكانته، هو بمنزلة "الفرعون"، الذي يتمتع بأهلية القول (أنا ربكم الأعلى).!!

نعم؛ هذا الواقع شاركنا جميعاً بصناعته؛ فتح وحماس وباقي فصائل العمل الوطني، وطورنا هذا الخطأ ليتحول إلى خطيئة، يدفع ثمنها – بلا شك – الكل الفلسطيني.

إن استحواذ الرئيس (أبو مازن) على كل المواقع القيادية؛ السياسية والعسكرية والأمنية، وحتى على صندوق الاستثمار الفلسطيني، مع غياب كامل للمؤسسات التشريعية والوطنية، وتعمد تهميش أي دور لها، وأيضاً - وهنا الحالقة - مزاجية الرئيس، وتقلبات علاقاته تجاه الآخرين من أصدقائه أو خصومه السياسيين، والتي جعلت الحالة السياسية الفلسطينية تصل إلى مستويات متدنية، وأوضاع كارثية في كل المجالات؛ مثل: شلل مؤسسات السلطة وتنازعها في ظل الانقسام، وعجز المجلس الوطني على الانعقاد منذ العام 1996م، تكبيل أيدي الفلسطينيين عن التحرك من أجل القدس المسجد الأقصى برغم سياسات التهويد والاقتحامات المستمرة، شرذمة الموقف العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية، تفتيت جبهاتنا الداخلية وخلق حالات من الاصطفاف الحزبي البغيض، تعطيل عمل الإطار القيادي المؤقت وقطع الطريق أمام سبل الإصلاح والتدارك، تعليق الفعل المقاوم وشل فعاليته من خلال التنسيق الأمني، التفرد بملف التفاوض دون مرجعية وطنية، ووضع كل أوراق اللعبة السياسية بأيدي الأمريكان، وتهميش دور المجتمع الدولي بشكل ملحوظ!!

هذه الحالة من التأزيم السياسي، والشلل في علاقاتنا الوطنية، تضعنا أمام السؤال الأهم، ما الذي يجب فعله من الجانب الفلسطيني؟

لا يختلف اثنان بأن الواقع القائم – اليوم – لن يتحسن أو يستقيم بعمليات ترقيع شكلي، بل لا بدَّ من إجراء عملية إصلاح وتغيير جذري، من خلال بناء استراتيجية وطنية واحدة، قائمة على الأركان التالية:

- إننا جميعاً في فصائل العمل الوطني والإسلامي نعتبر أنفسنا جزءاً من حركة التحرر الوطني، ولا ندين بالولاء لغير قضيتنا الفلسطينية وأولوياتنا الوطنية، وأن ارتباطاتنا الخارجية هي فقط لجلب الدعم والتأييد والنصرة لمتطلبات مشروعنا في التحرير والعودة.

- إننا بحاجة ماسة لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، كي يتكيف مع الحالة الاحتلالية التي عليها وضعية السلطة الفلسطينية، والتي تستدعي مشاركة الجميع من الكل الوطني والإسلامي في عملية اتخاذ القرار.

- التسليم بمسئولية الجميع عن الخطأ؛ إذ ليس هناك - اليوم - أحدٌ أفضل من أحد، فالكل كان له اجتهاداته الخطأ وأحياناً خطاياه، حيث لحركة فتح أخطاؤها، وكذلك الحال بالنسبة لحركة حماس، فالخلل مرجعه تردي النظام السياسي الفلسطيني، وغياب الشراكة السياسية، وانعدام التوافق الوطني، وتهميش العمق العربي – الإسلامي، وعدم استثمار التعاطف الدولي وشبكات التضامن والتواصل الاجتماعي بالشكل الأمثل.

- تفعيل المجلس الوطني الفلسطيني بعد سنوات طويلة من الغياب، ليكون هو مظلتنا جميعاً، ومستقر حواراتنا، والقادر على تحديد رؤيتنا السياسية والاستراتيجية، واستعادة عمل المجلس التشريعي الذي تمَّ تعطيله منذ أن وقع الانقسام البغيض في عام 2007م.

- سرعة إجراء الانتخابات على قاعدة التمثيل النسبي الكامل، باعتبارها طريق الخلاص وحجر الزاوية، والعمل على تحويل النظام السياسي إلى نظام برلماني، وإعادة بناء المؤسسة الشورية المعبرة عن الكل الوطني والإسلامي في الوطن والشتات.

- تحريك القضية باتجاه الأمم المتحدة، بهدف كسب زخم التأييد وحجم التضامن الذي تحظى به عالمياً، والابتعاد تدريجياً عن دائرة الهيمنة الأمريكية، والتسليم بدور المجتمع الدولي ومنظماته الأممية في دعم المواقف الفلسطينية، المطالبة بإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال.

- عدم الارتهان للوهم، والاستسلام لدولة الاحتلال؛ فلا سلطة بلا سلطة، ولا احتلال بلا كلفة.

وأخيراً، وفي انتظار تحقيق كل ذلك، وأملاً بطي صفحة الخلاف، والعمل بسياسة "عفى الله عما سلف"، يجب منح الإطار القيادي المؤقت صلاحيات واسعة، بهدف العمل على ترتيب البيت الفلسطيني، والتأكيد من خلال واقع الفعل أنه "لا دولة في قطاع غزة، ولا دولة بدون قطاع غزة"

اخر الأخبار