يافا.. عروس فلسطين وزفاف مؤجَّل!

تابعنا على:   15:30 2015-10-03

أمد/ رام الله - بثينة حمدان: الجميلة والعنيدة وأم الغريب هي يافا عروس فلسطين، والعروس يحب الجميع أن يطل عليها ويبارك لها بحرها وهواءها.. لقد ولدت قبل خمسة آلاف عام، وهي محطة مهمة للفن والثقافة والاقتصاد والنقل، ولكن رغم استعدادها لحفل زفافها فقد اختطف عام 1948 فرحتها وحوّلها اليوم إلى ضاحية ثانوية، وصار أهلها الفلسطينيون أقلية يحملون جنسية المحتل الإسرائيلي والتي هي شهادة موثقة لبقائهم في أرضهم!
إنها يافا المجنون المتيم بها، والمعمر الحافظ للذاكرة وحجارة ومبان شاهدة على المكان رغم محاولات طمس ومسح تاريخها.
رغم موجة الغبار التي اجتاحت فلسطين، فإننا صممنا على زيارة يافا. وما إن تقرر الموعد حتى امتلأت قلوبنا بالسعادة. سرنا إلى شاطئها والميناء لنتلمس جمالها ونتحدث إلى أهلها الأصليين، انطلقنا من رام الله عبر حاجز قلنديا إلى مدينة القدس، ومن هناك أخذني المقدسي كايد قطب إلى يافا التي تبعد عن القدس 55 كلم.
في الطريق، بدأ كايد الحديث عن زيارته لابنه في سجن المسكوبية والقابع فيه منذ ثلاث سنوات دون دليل على تهمة ومحاكمة مؤجلة. مررنا بسجن أبو كبير جنوب يافا ليتذكر الأيام التي قضاها في المعتقل خلال الانتفاضة الأولى، وإصابته والسجناء بمرض يسبب الحكة الشديدة في الجلد نتيجة قلة النظافة في السجون، فلا يعرفون النوم أو ارتداء الملابس. لم ينفع الدواء، فقرر أحد الأسرى استخدام صابونة غسل الملابس، فرك بها جلده ورغم أنها حارقة مؤلمة، فإنها كانت العلاج الشافي.

يافا.. الهروب الكبير
كان الهواء مفعماً برطوبة البحر، ويافا هادئة سياحياً في أواخر موسم الصيف، وفي صحبتنا د. هشام أبو عمارة والذي بدأ الرحلة من هنا.. من البلدة القديمة، وقفنا بين جامعين: يافا الكبير وجامع البحر، وفي الخلف أشار إلى المنطقة التي جمعت فيها العصابات الصهيونية الفلسطينيين من أهل يافا وأولئك الذين جاؤوا من المناطق الفلسطينية المجاورة للهروب عبر مينائها خلال نكبة عام 1948، ثم جرى إغلاقها بسياج من الأسلاك من جميع الجهات على امتداد أطول شوارع المدينة «شارع الحلوة»، ومُنع الفلسطينيون من الخروج إلا بأمر من الحاكم العسكري للعلاج أو العمل فقط.
خرجت من يافا قسراً معظم عائلاتها الميسورة والتي كانت تمتلك تكلفة النقل، بينما بقي المسحوقون الذين لا مفر لهم والصامدون الذين قرروا البقاء رغم أن أنوفهم تحسست رائحة موتهم المتوقع.

صالح.. والصديق اليهودي
في البلدة القديمة، التقينا بعمر سكسك رئيس قائمة يافا عضو مجلس بلدية تل أبيب - يافا، وقدّم لنا هدية عن ذاكرة المدينة وهي عبارة عن قصة صالح المصري (87 عاماً) أحد أبناء يافا والشاهد على ما حدث في النكبة. واللافت أن صالح يذكر قصة عائلتين يهوديتين استأجرتا من عائلته شقتين. ومرة طردت إحدى العائلتين ابنها ليستقبله صالح في غرفته، وتعرف من خلاله على الشبيبة الشيوعية. وشاء القدر أن يحتل الصهاينة يافا ويهدموا بيته في حي المنشية ثم قاموا بتحويله إلى موقف باصات.
صالح هو أحد الناجين العائدين إلى المدينة، والذي كان قد خرج مع عائلته عبر الميناء ووصل إلى حدود مصر بناء على وعد عربي بالعودة بعد أسبوعين. مرت سنون طويلة، عاد فيها إلى غزة ثم الضفة الغربية ثم عمل في حيفا والناصرة، وباللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية حصل على الجنسية الإسرائيلية مطلع الخمسينات، وبقرار محكمة حصل على ترخيص ملحمة افتتحها في المدينة عام 1957.
اليوم، نجد العم صالح يجوب بالسياح والناشطين اليهود يحدثهم عن الذكريات والنكبة وما بعدها، ويشير إلى بيته في المنشية ومقابله منزل السيدة سارة القوقة، ثم يشير إلى هذا المقهى لمحمود أبو حوسة وذاك لأبو خليل الحلبي في شارع سوق الكرمل، وهنا محل لبيع الدراجات الهوائية لأسعد أنجاصي وعائلته..

طمس المكان
مررنا بأبرز أحياء يافا أو ما بقي منها مثل حي المنشية والعجمي وأرشيد.. شاهدنا بعض البيوت القديمة فيها والتي ترتطم حدودها بما يسمى اليوم مدينة تل أبيب الإسرائيلية والتي كانت تسمى تل الربيع مع توسعات صودرت فيها العديد من الأراضي ومنها يافا. وقد أخبرنا عبدالقادر السطل الملقب بـ«مجنون يافا» والذي لم نتمكن من مقابلته لانشغاله، لكونه يترأس قسم الولادة القيصرية في أحد المشافي الإسرائيلية.

البلدية الجديدة «تل أبيب - يافا»
كتب الكثير عن يافا، وعن إلغاء إسرائيل مجلس البلدية الذي يعود إلى الفترة العثمانية عام 1885، وضمها في الخمسينات إلى تل أبيب إدارياً ضمن مجلس بلدي واحد، ولم تضع البلدية الجديدة تل أبيب - يافا اسم يافا على اللافتات. تحوّلت يافا من مدينة فلسطينية تضم اثني عشر حياً إلى ضاحية ثانوية لتل أبيب بأربعة أحياء. كان عدد سكانها قبل النكبة أكثر من 66 ألف نسمة، بقي منهم بعد النكبة أربعة آلاف، ويبلغ عدد سكانها العرب حالياً 15 ألف نسمة يعيشون معظمهم في حي العجمي.

هدوء قبل العاصفة.. والحرائق
بين عشرات النصوص التي كتبها المتيم بيافا عبدالقادر تصاعد دخان المخابز من حي المنشية ورائحة الفول، وحياة تعج بأهل يافا وزوارها من مختلف الدول العربية. لقد كانت أمواج البحر ترتطم بمنازل الحي، وهو أول الأحياء التي دمرتها قوات العصابات الصهيونية في النكبة، فشاهد اليافاويون على بعد خمسين متراً من هروبهم حريق منازلهم، فمن عاد احترق ومات ومن هاجر عاش محترقاً. أما هذا البيت الذي أشار إليه د. هشام والذي ترتطم الأمواج فيه، فقد احتلته منظمة أيتسل الصهيونية، وصار اليوم متحفاً.
سقط حي المنشية في فصل الربيع، حيث يكون البحر في قمة هدوئه، الهدوء الذي يسبق العاصفة كما يقال. كان يقطنه 22 ألف فلسطيني وفيه اثنا عشر مخبزاً وعشرون مقهى وأربع عشرة منجرة وأربع مدارس ومسجدان.. اختفت كل هذه المعالم وبقي منها بعض الفلسطينيين ومسجد واحد هو حسن بيك، حتى سكة الحديد التي بناها العثمانيون وتصل المدينة بالقدس، وضعت عليها لافتة عبرية لا تشير إلى الزمن الفلسطيني لهذه السكة!

فلسطينيو 48.. والعنصرية
تشير الإحصاءات إلى أن عدد سكان إسرائيل 7.6 ملايين نسمة، منهم نصف مليون مستوطن في مستوطنات الضفة الغربية، في حين يشكل الفلسطينيون %20 ما بين مسلمين ومسيحيين يحملون الهوية الإسرائيلية الزرقاء وتكتب بالعربية والعبرية، ولكنها تختلف عن هوية اليهودي الإسرائيلي بإضافة جملة «مقيم دائم» والقومية «عربية». وطبعاً تشمل القوميات في إسرائيل اليهودي والشركسي والدرزي. وقد استبدلت القومية قبل سنوات بإضافة التاريخ العبري والذي يوضع لليهود فقط، وهذا كله من أسس النظام العنصري الذي تقوم عليه إسرائيل، وهي قد روجت لمصطلح «عرب إسرائيل» في محاولة لمحو كلمة «فلسطيني»، وشارك الكثيرون بتداولها بينما هم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم خلال نكبة عام 1948، وعانوا وما زالوا بسبب جنسيتهم الإسرائيلية. فالبعض لا يدرك حقيقة أن هذه الجنسية الورقية هي دلالة صمودهم الفعلي.

قانون الحاضر الغائب
استطاع بعض أهالي يافا العودة بعد النكبة حتى عام 1952، استناداً لقانون الحاضر الغائب والذي يمكن من خلاله تقديم طلب لم الشمل، بينما فتحت إسرائيل أبوابها لكل اليهود في العالم للعودة في أي وقت إلى المكان الذي عاشوا فيه نحو سبعين عاماً قبل آلاف السنين. شمل هذا القانون كل من هم أقل من ثمانية عشر عاماً. لذا، نجد أن أهل د. هشام موزعون: الأب لاجئ في غزة والابن فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية في يافا وهكذا..

إضراب المدارس «العربية»
كان د. هشام يرد على هاتفه للحديث مع أحد أعضاء لجنة أولياء الأمور حول إضراب المدارس الخاصة والمخصصة للفلسطينيين وعددهم 33 ألف طالب وطالبة حرموا من افتتاح العام الدراسي مطلع سبتمبر بسبب إعلان وزارة المعارف الإسرائيلية قرارها عدم تحويل الميزانيات اللازمة لهذه المدارس، وهي سياسة قديمة، حيث تقلصت الميزانية المخصصة للمدارس العربية على مدى سنوات، بل وحددت تكاليف جباية الرسوم من أهالي الطلبة، مما شكّل ضربة للجهاز التعليمي وجعل هذه المدارس تعلن الإضراب.
وأوضح لنا د. هشام أن تقليص الميزانية يعني أن عليه أن يدفع شهرياً آلاف الشواكل (أربعة آلاف شيكل تساوي ألف دولار) في حين أن متوسط دخل الفرد 2500 دولار في إسرائيل. وعادة ما يعمل العرب في وظائف أقل حظاً من اليهودي الإسرائيلي، ولكن المميز والمبدع العربي طبعاً لا مفر من أن يأخذ مكانته رغم كل المعيقات والمثبطات الإسرائيلية.
يوجد في يافا اليوم ثلاث مدارس حكومية تعتمد المنهاج الإسرائيلي وخمس مدارس خاصة مسيحية تابعة للكنائس، يدرس فيها الفلسطينيون، مسيحيين ومسلمين، ومنها مدرسة واحدة مختلطة تضم العرب واليهود. وتشير الإحصاءات إلى أن تكلفة الطالب الفلسطيني - الإسرائيلي من الحكومة الإسرائيلية 192 دولاراً، مقابل 1100 دولار للطالب اليهودي.
مسح المدينة وتشويه معالمها العربية والإسلامية
ضمن مخططات مسح تاريخ مدينة يافا العريق أشار لنا الدكتور هشام إلى أحد المباني قرب الجامع الكبير، حيث رخصت البلدية الاسرائيلية لبناء فندق صار يغطي على مئذنة الجامع والتي كان يمكن رؤيتها من بعيد.
كما تحولت مكتبة المدينة العريقة والتي تأسست على زمن الأتراك إلى فندق والمشفى الفرنساوي أيضاً أصبح فندقاً، لكن قرب الميناء تقف مجموعة من المباني القديمة بشكل متلاصق، ولافتة صغيرة على بوابتها «يافا القديمة ترحب بكم»، وتضم سوقاً وكنائس الأرمن والأرثوذكس والكاثوليك وجامع البحر.
ونحن نسير هنا شاهدنا الكثير من الحجارة القديمة التي تدل على مساكن أصبحت آثاراً مهملة. ومن بعيد اقترب منا فوج من السياح مع رجل دين يهودي، ترجم لنا الدكتور هشام ما يقوله من تاريخ لا يمت للمدينة بالصلة، وهناك عروس يهودية تقف لالتقاط صور ما قبل زفافها.. وهنا ترسو سفن الميناء والذي نروي حكايته في الجزء الثاني من حكاية يافا..
ترسو حول ملايين صناديق البرتقال وينابيع الثقافة والفن.. ووجبة السمك الشهية.
عن القبس الكويتية

اخر الأخبار