الأحزاب «الدينية»!

تابعنا على:   12:18 2015-08-29

د . هالة مصطفى

تجدد الجدل فى الآونة الأخيرة حول شرعية وجود الأحزاب ذات الطابع الاسلامى, وانقسمت الآراء بين مدافع عنها ورافض لها خاصة بعد أن تضمن الدستور الجديد مادة تحظر قيام أحزاب على أساس دينى, إلا أن عدم ترجمة هذه المادة فى قانون أو تعديل قانون تنظيم الأحزاب السياسية بما يتوافق معها ترك الباب مفتوحا لمثل هذا الجدل، وليس الهدف هنا مناقشة الجوانب القانونية والاجرائية لهذه القضية وإنما التطرق لجوانبها السياسية والفكرية باعتبارها أزمة لا تقتصر على مصر ولكن تشهدها معظم المجتمعات العربية الاسلامية, فضلا عن كونها موضوعا مثارا فى معظم الدوائر السياسية والبحثية الغربية كحل للادماج الآمن للتيارات والقوى الإسلامية فى العملية السياسية وغالبا ما تتم مقارنتها بالأحزاب الديمقراطية المسيحية, أى أنه جدل يتجاوز النطاق المحلى، فهل تصبح الأحزاب الاسلامية كتلك المسيحية فى الغرب؟

بداية لابد من التأكيد على أن المقارنة هنا يجب أن تكون نسبية لأن الواقع هناك غير الواقع هنا, فالتجربة الغربية تفصلها مسافات زمنية وثقافية وحداثية عن مثيلتها الشرقية، ومسار تطور الفكر المسيحى ليس هو نفس مسار تطور الفكر الاسلامى. نشأت الأحزاب الديمقراطية المسيحية بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل على الأيديولوجيات الشمولية القاسية والمدمرة من فاشية ونازية وشيوعية بعد ذلك, وقد سبقها بسنوات ظهور حركات سياسية واجتماعية تحمل نفس الاسم وفرت لها خبرات واسعة, لذا فقد قدمت نفسها باعتبارها أحزابا اصلاحية ووسطية, صحيح لها طابع محافظ فيما يتعلق ببعض الجوانب الأخلاقية العامة ولكنها ليست دينية بالمعنى التقليدى, إذ ليس من ضمن أهدافها إقامة «الدولة المسيحية» على غرار الدولة أو «الخلافة الاسلامية», ولا تسعى لتغيير طبيعة وهوية الدولة والمجتمع وفقا لأجندتها, ولا تقوى أصلا على المساس بالدولة القومية الحديثة المتجذرة فى أوروبا ولا بدساتيرها العلمانية, ولا بالحقوق والحريات الفردية كما تعرفها الثقافة الغربية والتى اكتسبتها بعد ثورات فكرية كبرى بدءا بوثيقة «الماجناكارتا» فى إنجلترا إلى مباديء الثورة الفرنسية وإعلان الاستقلال الأمريكى وغيرها من مواثيق حقوقية جعلت لمثل هذه الأحزاب سقفا لا تتخطاه فى حركتها السياسية أو الاجتماعية مثلما لا تستطيع إجبار الأفراد على انتهاج سلوك معين على غير إرادتهم, أو ممارسة أنواع من التمييز ضد المرأة أو الأقليات ويكفى أن رئيسة واحد من أكبر تلك الأحزاب فى ألمانيا هى المستشارة إنجيلا ميركل.

باختصار استوعبت الأحزاب الديمقراطية المسيحية قيم الحداثة وتواءمت معها وليس العكس لأنها تعمل فى مناخ تنويرى مفتوح تشكّل من تراث فكرى وفلسفى راسخ, إنه تراث ديكارت وهوبز ولوك وسبينوزا ومونتسكيو وفولتير وروسو وديدرو وكانط, من مفكرى وفلاسفة عصر النهضة الذين مازال حضورهم طاغيا فى الثقافة الغربية حتى اليوم, ومع نفس العصر شهد الفكر المسيحى تطورا وإصلاحا لم يقتصر على حركة مارتين لوثر مؤسس المذهب البروتستانتى وإنما امتد الى الكاثوليكية الكلاسيكية أيضا, كانت هناك بالطبع معارك فكرية ضارية وحروب دينية طاحنة ولكنها أنتجت فى النهاية هذا السياق الحضارى الغربى الذى وٌلدت فى ظله الأحزاب الديمقراطية المسيحية وهوما جعلها مختلفة بل شديدة الاختلاف عن الأحزاب الاسلامية فى عالمنا المعاصر اليوم. ففى الحالة الأولى تصل هذه الأحزاب الى السلطة وتخرج منها, تشكل الحكومات أوتشارك فى ائتلافاتها, تحصل على الأغلبية فى البرلمانات أو تتحالف مع غيرها من الكتل البرلمانية ولا تغيير جذرى يحدث, لا إنقلاب على طبيعة الدولة ولا دستورها ولا حتى تشريعاتها القانونية العامة, بل تضطر فى كثير من الأوقات لتقديم تنازلات حتى وإن اختلفت مع قناعاتها الفكرية خاصة فيما يتعلق بتنظيم أحوال الأسرة أو ما يسمى الأحوال الشخصية عندنا, ويمكن مراجعة التشريعات التى صدرت على مدار أعوام فى إيطاليا أو ألمانيا أو غيرهما من الدول التى تلعب فيها الأحزاب المسيحية دورا محوريا فى الحياة السياسية التأكيد هذا المعني. بعبارة واحدة نحن نتحدث عن أحزاب دينية مجازا فى الغرب لأنها تعمل فى اطار ديمقراطى متقدم وليس هشا أو حديث النشأة كما هو الحال فى المجتمعات غير الغربية، لهذه الأسباب فإن المقارنة ليست فى موضعها.

ولكى تكتمل الصورة فهناك قضية أخرى تستحق المناقشة فيما يتعلق بالوظيفة السياسية للأحزاب الإسلامية حيث تقول إن وجود هذه الأحزاب قد يؤدى تلقائيا الى احتواء جماعات العنف من ذات المرجعية, وهو قول مردود عليه من واقع ما تشهده المنطقة الذى يشير الى نتيجة معاكسة لهذه الفرضية، إذ تم السماح بقيام مثل هذه الأحزاب «سنية وشيعية» فى أغلب الدول من لبنان والعراق إلى مصر وتونس وليبيا واليمن والكويت وغيرها ولم يتغير المشهد بل ازداد التطرف والقتل والتكفير والتدمير والطائيفية ولم تنقطع الفتاوى التى تبرر مثل هذه الأعمال غير الانسانية وشديدة البدائية، فماذا فعلت الأحزاب المصنفة بالاسلامية؟ لا شيء يُذكر.

وبنفس المنطق كان من المنتظر أن تبادر تلك الأحزاب بالتطوير والاصلاح على المستوى الفكرى وفى التراث الاسلامى ما يمكن أن يعزز من هذه المساعى إذا بدأت, فالفكر الاسلامى شهد لحظات ازدهار فى القرون الماضية, ولكن هذا الملف بدوره يبدو مغلقا إذ لم يعد باب الاجتهاد مفتوحا وربما ضاعت جهود الاصلاحيين الأوائل لصالح أصولية جامدة تدور حول تأويلات ومدارس فقهية محدودة يتصدرها فكر ابن تيمية والمودودى وسيد قطب وحسن البنا وهى المدارس التى تعتمد عليها أغلب الحركات والجماعات السياسية الاسلامية بما فيها الأكثر عنفا وتطرفا مثل «داعش» ومن قبلها تنظيم القاعدة.

أما فيما يتعلق بالديمقراطية والحريات وعدم التمييز ووضع المرأة والأقليات وكلها موضوعات مرتبطة ببعضها البعض, فلم تأت تلك الأحزاب فيها بجديد بخلاف بعض المظاهر الشكلية لضم أعضاء أقل من القليلة من الفئات الأخيرة اليها كى تنفى عن نفسها الصفة الطائفية أو الادعاء بأنها أحزاب مفتوحة للجميع رغم أنها لم تجر أية مراجعات نظرية يعتد بها فى هذا السياق.

كل هذه العوامل تشير إلى أن المشهد برمته فى حاجة إلى إعادة نظر سواء استمر عمل هذه الأحزاب أو تم حظرها قانونا، فربيع المنطقة الحقيقى لن يأت مالم تكن هناك ثورة فكرية على كل ما أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن!

عن الاهرام

اخر الأخبار