الإنسان قبل الأيدولوجية

تابعنا على:   11:29 2015-07-28

السيد شبل

لسنا نعني بهذا العنوان من أي وجه، العبور إلى ما يسمى عصر"ما بعد الأيدولوجيات"، الذي يستهدف بالأساس ضرب وتمييع قضية الانتماء للأيدولوجيات القومية واليسارية، على وجه التحديد، في مقتل؛ بهدف إخلاء الساحة أمام الفكر النيوليبرالي بسيولته وعدم انضباط أساساته وخدمته لمصالح القوى الاستعمارية، الغربية على الخصوص. ولكن ما نقصده هو إعادة الاعتبار للإنسان، الذي يسبق وجودُه وتميًّزه انتماءه الأيدولوجي، ذلك لأن الشخص هو الذي ييمم وجهه تارة إلى هنا وتارة أخرى إلى هناك، حتى يهتدي إلى المرفأ الذي تسكن فيه سفينته، بنسبة ما؛ والحديث هنا عن الشخص حر الإرادة لا من يرث مذهب آباءه أو المجتمع المحيط به.

شخصيًا أقر وأعترف وأفتخر وأتشبث بـ وألح على، أني أنتمي إلى التيار الناصري، وأجزم أن استلهام روح جمال عبدالناصر التي تجلت في خطاباته وكتاباته وانحيازاته وقوانينه وإجراءاته، مسألة لا غني عنها لأي أمة تبغي النهوض؛ ولكن هل يوفّي المرء ما عليه بذكر مثل هذا؟.. خاصة بعد أن تحولت الأفكار التي تبثها الأيدولوجيات - بفضل تابعيها - إلى شعارات تشبه شعارات "الربيع العربي"، كلمات براقة خالية من المضامين. إن القول بأن هذا الشخص ينتمي إلى هذه المدرسة الفكرية أو تلك يكتسب أهميته من مواقفه التي تبرهن على صدق انتمائه وعلى حسن تأويله لمباديء التيار الذي ينتمي إليه وعلى قدرته على استلهام روح التجربة بالكلية؛ وهذا لن يتحقق إلا إذا كان الشخص لديه من سلامة الفطرة وصدق الحدس ومتانة التجربة، ما يؤهله لاتخاذ الموقف السليم عند وقوع أي مستجد.

بعض ما نعنيه هنا، في سياق موازي، يدور حول تبعية الأيدولوجية والمذاهب الفكرية للإنسان، فالإنسان هو المحور وكل طاريء يدور في فلكه، وذلك على العكس مما صار منتشرًا وشائعًا ومتواطأً عليه اليوم. فالأفكار التي يتبعها كثيرون الآن أو بالأمس أو غدًا، هي بالأساس ترجع إلى "إنسان" ما، والمقصود هو إعادة الاعتبار إلى ذلك "الإنسان"، والاهتمام به عند تقييم صلاحية هذه الأيدولوجية أو تلك، ذلك لأن أي مذهب فكري يبدو للوهلة الأولى (للناظر من بعيد) وكأنه ملتزم بالضوابط والأعراف العامة، ويحاول حتى أن يكون منضبطًا وحذرًا عند الاختلاف، بل ويسعى لكي يحصّل الجيد عند غيره؛ لكن تفاصيل الكلام هي ما تكشف النقاب عن مضمون التوجه، لأنها في الحقيقة تكشف عن جوهر قائلها، فهي تقتبس من صلاحه أو فساده (المذهب يكتسب قدرًا معتبرًا من صلاحه أو فساده من مؤسسه). كأن قائل الكلام (مؤسس المذهب أو التيار الفكري) يضع فيه بذرة ما تنمو في عقل المستقبل للرسالة، إن هو آمن به وتماهى مع أفكاره، فتكون الثمرة إما نور أو ظلمة بحسب مؤسس المذهب الأول (أول من نسق ورتب وأطّر ومارس الكلام، ذلك لأن أغلب الكلام لا يكون في أصله جديدًا أو مبتدعًا بالكلية). وعلى هذا نقول أن الاهتمام بتقييم الشخص أسبق من الاهتمام بتقييم أفكاره، ليس لأن الأفكار قليلة الأهمية، ولكن لأنها في حكم التابع، لا أكثر ولا أقل.

الواضح أنه مع حاجة المجتمع (الجماعة البشرية) إلى تصنيف أفرادها وصبغهم بألوان تميزهم (وهذه من أسوأ الآفات التي أصابت البشر، مبكرًا)، صار لزامًا على الشخص أن يعلن عن لونه (أيدولوجيته) قبل الشروع في التعبير عن الموقف، وهذه قضية يرى فيها الكثيرون ونحن معهم قدرًا معتبرًا من التقييد والتعنت والتضييق، كان الفرد، الذي فُطر على السعى نحو الإطلاق، في أتم الغنى عنها.. ولكن هل هذا يسير بنا نحو تمييع وتسييل المواقف؟.. إن كان الناتج هكذا، فإنه هذا يدل على أن ما تم تحصيله هو صورة ما نرمي إليه وليس جوهره؛ لأن مضمون ما نقصده هو أن نترك مساحة لمواقف وأراء الفرد لتتحدث عن انتماءه وتوجهه؛ أي أن الموقف، قبل اللسان، يكون هو المرجع الذي يُحتكم إليه؛ فالإنسان يسمو ويهبط بنفسه قبل الأفكار التي يرثها أو تُلقن له أو تسقى إليه بالملعقة، فإن كان في ذاته وضيعًا مرتجفًا هبط بأفضل الأفكار إلى الحضيض، والعكس ليس صحيحًا على إطلاقه، لأن وجود الأفكار السليمة شرط النهضة والرفعة.

إذن فالأمر يقوم على قدمين وليس على قدم واحدة. لكن أحدهما هي الأساس بل هي الأسبق حتى من ناحية التكوين، وأن الدرب الذي يسير فيه المرء في أول الطريق متعسرًا قبل أن تكتمل قدمه الثانية مطلوب وضروري، إلى أن يؤذن له فيتصل نور فطرته بنور عقله (الفطرة تسبق العمل العقلي)، وتخبر مواقفه عن توجهه وإلى المحور الذي ينتمي إليه، ومن ثم يستزيد ممن ويتقوى بمن يواقفوه على نفس الموجة الفطرية. أما مسألة توريث أو تلقين الأيدولوجيات والمذاهب حتى في الدين نفسه، فلا تثمر خيرًا، بل إنها حتى وإن كانت في ذاتها لا بأس عليها، فإنها قد تحول بين الشخص وبين الوصول للحق، وبناء عليه يظل الاهتمام بالإنسان وتربيته وإعداده أهم من كل وجه.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن المقصود بالبوصلة الفطرية السليمة والتي نلح عليها، ليست إلا الضمير (المستور) والذي يعتبر نورًا يُلهم وحكمًا يُراقب، والاتكاء عليه ليست بالمسألة اليسيرة التي يتكفل بها اللسان، ولكنها تحتاج إلى مجاهدة حقيقية وتطهر ذاتي دائم وتقويم مستمر للنفس واجتناب للشبهات وعبور من الماديات إلى المعاني والمباديء والمثل العليا، بل وبدون تصنع أو حث سمج - كما المعتاد - على الفضيلة، فالسلوك الشخصي معتبرٌ جدًا في هذه القضية، والتحلّي بالمحمودات والتخلي عن المذمومات جزء من عملية التطهر، فهذا أمر، ولا شك، يلقي بظلاله على مواقف الشخص في الحياة بشكل عام، والسياسة جزء منها؛ أقله أنه ينفي عنه تهمة النفاق أمام نفسه في المقام الأول، إذ كيف يناضل "السياسي" من أجل رفعة مجتمعه وهو في نفسه خربًا يحمل من الطمع والحقد والحسد والميل لاتباع الشهوات النفسية والأمراض القلبية ما يكفي لردم المحيطات!!، ولسنا نعني هنا بالالتزام الخُلقي هذا المظهر النمطي الذي ينادي به "الإسلامويين" على مدار الزمان، ولكن نعني به وضع يمارسه الإنسان ذاتيًا ويتجاوز مراحله داخليًا باطنيًا، والأمر فيه تفصيل لا يستع له المجال.

ختامًا لا نشك في أن القضية تحتاج إلى أن يفرد لها مساحة أكبر من تلك، وتناول أعمق من ذلك، خاصة وأن تجربة الأربع سنوات الماضية والأحداث الكثيفة والملتبسة التي جرت في العالم العربي، أكدت بما لا يدع مساحة للجدل في أن الأيدولوجية الفكرية بدون أن تمهد لها الفطرة والضمير الأرضية المناسبة قد تصير حائًلا يحول بين الشخص وبين إصابة الحق، بل ربما تحيله - عبر تأويلات خاطئة - إلى الضد مما كان يرجوه في الأصل؛ حتى يبدو للناظر أن ما كان سببًا في هداية غيره، هو ذات ما كان سببًا في ضلاله، وليس هذا راجع، على أية حال، لأحد غير المتلقي، ومدى قابليته الذاتية للخطأ والصواب.

اخر الأخبار