خلل في التوازن المصري!

تابعنا على:   12:03 2015-03-28

السيد شبل

لم يعد هناك مجال واسع للجدل في حقيقة أن الأداء المتوزان الذي حافظت عليه الإدارة المصرية منذ الثلاثين من يونيو 2013 وحتى وقت قريب، قد أصابه خلل ما، ساق الأمور إلى ما هي عليه الآن فيما يخص الشأن اليمني. حيث يمكن، وبضمير مطمئن، وصف التدخل العسكري المصري المنضوي تحت لواء دول الخليج العربي، بقيادة المملكة السعودية، بأنه قرار قد غابت عنه الحكمة إلى حد بعيد، وسقط في دائرة الفعل المتهوّر الذي تخسر معه مصر، أول ما تخسر، قدراتها الذاتية على ضبط الأمور، ومكانتها الإقليمية التي تجعلها فاعلًا بالأصالة، لا مسحوبة إلى الفعل، ومجرورة إلى معارك كان يمكن أن تتدخل فيها بشكل آخر.
واقعيًا، كان هناك سبلًا أخرى وأدوات فعل مغايرة، كان يليق بالنظام المصري التمسك بها، والإصرار على استغلالها والسير فيها، عوضًا عن جره إلى معركة لا تصب سوى في صالح دولة بعينها، لها رؤية ضيقة للأمور، تعيش في أسرها منذ نشأتها.
إن تعقدات المسألة اليمينة، واقتسام أكثر من جبهة للحق فيها، كان يفرض على مصر طرق الأبواب الدبلوماسية والإصرار عليها، خاصة مع النظر إلى مكانة مصر الإقليمية اليوم، والتي تؤهلها لجمع الفرقاء، ولا نتصور أن طرفًا داخليًا يمنيًا كان سيمانع في أن تلعب مصر هذا الدور.
وليس ثمة مبالغة عند القول بأن مصر كانت تستطيع التكتل جبهويًا مع دول عربية مثل سلطنة عُمان والجزائر وربما الأردن ( إن استبق استقطاب مصر لها استقطاب الآخرين)، في سبيل دعم الحلول السياسية في اليمن. والحل السياسي لا يتنافى ومسألة إطلاق تصريحات (تدين وتحذر وتطالب) تخاطب الداخل اليمني، وليس ثمة شك في أن تصريحات مصر حينها كان سيصاحبها أثرٌ أقوى ونفعٌ أكبر.
أكثر ما يقلق في التحرك العسكري المصري بالكيفية التي تمت، ثلاثة أمور: الأول، أن تكون مصر قد استدعيت إليه على عجل، وتم توريطها تحت شعار إما معنا أو ضدنا (على طريقة جورج بوش)، وهذه مسألة خطيرة، ولها دلالات سلبية على أكثر من صعيد. الثاني، أن تكون الاستجابة المصرية قد تمت بعد تهديدات تلقاها النظام المصري من الجانب السعودي، بأن التغير النوعي في العلاقات بين البلدين، سيتحول إلى انقلاب كامل، وأن السعودية ستلقي بكامل ثقلها في اتجاه المحور التركي القطري. والمقلق في هذا الشأن، يتعلق بأن اللعبة التي كان يمارسها النظام المصري، وهي المناورة واستغلال التناقضات بين المعسكرات، قد انقلبت عليه. وأنه صار يُبتز بما كان قادرًا على ابتزاز الآخرين به. وأنه عند احتدام الأمور، لم يستطع حفظ توازنه، وتسخير التناقضات لمصلحته، بل على العكس عجزت قدماه عن حمله وسقط في أحضان الطرف الأسوأ. الثالث، أن يكون الانضواء المصري الأخير تحت العباءة السعودية، مشيرًا إلى الميناء الذي قررت أن ترسو عنده سفينة النظام أخيرًا، وهذا ينسف بدوره أي طموح في أن تكون السياسة المصرية الجديدة مغايرة للسياسات المنبطحة التي حكمتها طوال الأربعة عقود الماضية!.
إن مسألة لعب أدوار عسكرية خارج الحدود، في أصلها أمر لا غبار عليه، ولم تتوقف مصر طوال تاريخها عن القيام به، بنسبة ما.. لكن المهم هو: أين ستلعب هذا الدور؟ ولصالح من؟. كما أن التوحّد العربي في عمل عسكري، أمر مطلوب، لكن بشرط أن يسبق عمليه التوحّد سؤالان.. ضد من؟ وما هي الأهداف؟. وبغياب هذه الأسئلة تنفلت البوصلة، ويختل الميزان، وتصبح الأعمال (التي في أصلها مطلوبة) كالسهام الطائشة تضر ولا تفيد.
إن ما نريده أن يكون مفهومًا من سياق الحديث السابق، هو أن مصر كان أمامها خيارات كثيرة، محورها الإصرار على العمل الدبلوماسي، وتفعيل سبله، والدعوة الجادة إليه. والإعلان بأنه ما ثمة حل إلا عبر هذا المسار، والتكتل جبهويًا في هذا الإطار (بهدف الحفاظ على مقدرات الدولة اليمنية، وعدم إضافة مزيد من الوقود إلى نار الاحتراب الداخلي)، والمناورة عبر التصريحات بشد هذا الطرف من الخيط تارة وإرخائه تارة أخرى والعكس، مع إرسال قوات بحرية لتأمين باب المندب بهدف طمأنة مخاوف مصرية داخلية لا نحسبها كلها مشروعة أو منطقية، وبهدف قطع الطريق على قوى دولية غربية قد تتخذ من الحدث برمته ذريعة لتعزيز تواجدها في البحر الأحمر، دون أن تكون هذه القوة البحرية موجهة ضد أي طرف داخلي يمني، أو داعمة لأي تحالف إقليمي، وإنما تكون مسؤوليتها، فقط، حفظ الأمن الملاحي. أما الانضواء والتقزّم تحت العباءة السعودية، فلا نعتقد أنه يليق بمصر، ولا يتناسب واللحظة التاريخية الحالية بكل زخمها وحيوية الشعب فيها.
فإن قال قائل أن مصر كانت مطالبة باستيعات لحظة الخوف والهوس الخليجي، قلنا، نعم، لكن ما نختلف حوله هو آلية وكيفية الاستيعاب، لأن ما جرى هو تبعية وليس استيعاب والفارق بين المفهومين عظيم..، وأشرنا أيضًا إلى أن هناك واقع يمني لا يمكن تجاهله عند الحكم على الأمور، فالجبهة التي يتم دفع مصر اليوم (ضمن تحالف تقوده السعودية بمشاركة قطرية ورضا تركي ومساندة غربية ودعم لوجيستي ومخابراتي أمريكي!!!) لشن حرب ضدها، قد سيطرت على اليمن شمالًا وجنوبًا بصورة، أقل ما تعكسه، هو التشكيك في كل ما تشيعه الفضائيات "النفطية" عن رفض الشعب اليمني لها؛ وهذا بدوره يطرح تساؤلًا حول الجبهة المناهضة لها على الأرض التي يمكن أن تدعّمها هذه الطلعات الجوية المكثفة.. هل هي:
تنظيم القاعدة المتطرف مثلًا؟ّ!
أم جماعة الإخوان الممثلة بالتجمع اليمني للإصلاح ؟!
أم الحراك الجنوبي المتشرزم أصلًا، والمنقسم على نفسه، والداعي لتقسيم القطر الواحد إلى قطرين ؟!
نطرح هذه الأسئلة الاستنكارية، وليس خافيًا علينا ما على الجبهة الشعبية العريضة، التي تتزعمها جماعة الحوثي، من مآخذ. لكن كل أمر يقدّر بعينه، ويُعالج بالأسلوب السليم الذي يحفظ للبلد وحدته وأمنه، وهذا ما يفرض أن يكون الحل سياسيًا، ولا غير!.
والحل السياسي، ليس موجه لخدمة طرف دون آخر، بقدر ما هو تحصين للمنطقة ككل من كرة النار التي يضاف إليها مزيد من الوقود الغربي الطائفي يومًا بعد يوم، والتي يُراد بها أن تشعل مزيدًا من الأماكن وأن تحصد في طريقها مزيدًا من الأرواح. وانطلاقًا من هذه الرؤية كان على النظام المصري، طالما اختار عدم الانحياز، أن يحتفظ بتوازنه كمحكّم بين الجبهات، وكمقرّب (من موقع قيادي) بين وجهات النظر، بهدف التقليل من آثار الحروب الداخلية والإقليمية، ليشغل بهذا موقعًا قلّ من يشغله، بل ولا يمكن لأحد أن يشغله سوى مصر.
ثم أن إيران رغم أي خلاف تاريخي أو مستجد قد نسجله مع سياساتها، ورغم أي قضايا قد نتحفظ على أدائها فيها بنسبة ما؛ فلا يمكن بأي حال أن يُنظر إليها على أنها "بعبع" المنطقة، والعدو الإبليسي المطلوب بالحشد ضده، كما تصور وسائل الإعلام المسألة الآن.. لعدة أسباب، أولها، أن مقعد عدو الأمة العربية والإسلامية المركزي، يشغله الكيان العنصري الاستيطاني الصهيوني، وخدّامه الدوليين الغربيين، وليس للأمة عدو أصلي أو مركزي سواه. ثانيها: أن إيران، نعم دولة قوية ومؤثرة وطموحة (وهذا قطعًا في صالح الأمة العربية بشرط التعاطي معه وفقًا لاعتبارات معينة) لكنها في الآن ذاته لا تملك هذا الفائض الهائل من القوة الذي يتوهمه البعض لتكون أياديها ممتدة ومتوغلة وعابثة في كل تلك المناطق، كما أن حضورها في الدول المتحالفة معها ليس طاغيًا كما يُشاع، بل نظنه على العكس. كما أن هناك تصورًا يفرض نفسه بقوة، ويتحدث عن أن إيران كانت في أمس الحاجة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، لتهدئة الأوضاع مع الوطن العربي حتى لا يكون إعلامه (بتجوّز) عبئًا مضافًا عليها، ومؤثرًا بالسلب - حتى لو بشكل محدود ومحصور- على موقفها في الأيام الأخيرة للتفاوض مع مجموعة الخمس زائد واحد بشأن ملفها النووي، وهذا بدوره يضيف اتهامات جديدة للتصعيد الإعلامي العربي الأخير ضد إيران من جهة، وللتصريحات المنفلتة من جانب بعض القيادات "الإصلاحية" داخل إيران في الأسابيع الماضية، من جهة أخرى، كونها جميعًا تخدم - بأي طريقة كانت - مصالح البيت الأبيض.
في الختام يجدر التنبيه إلى أن ما تحقق على الصعيد الداخلي المصري، كثير، فالدولة تستعيد قوتها، والأجهزة الأمنية تتعافى، والأجواء قد صارت مستقرة إلى حد بعيد مقارنة بأوقات سابقة على مدار الأربع سنوات الماضية، وهذا كفيل للقول بأن مصر قد قطعت "شوطًا" في إفشال مشروع غربي كان يستهدف تقسيم دول المنطقة وإفناء وجودها، لكن المعارك لا تتجزأ ومن قطع شوطًا عليه إتمام الطريق، وإلا انقلب أغلب أمره عليه بالسوء. فمفهوم الدولة لا يستقيم إلا إذا انتقل من الحيز السلطوي الضيق إلى الفضاء الوطني الواسع داخليًا وخارجيًا، وهذا يفرض على النظام أعباءًا شتى، ويطالبه بأن يكون محتاطًا حتى لا يرسب في اختبارات قومية أخرى كما جرى في الملف اليمني. والذي نرجو من مقعد التفاؤل، أن يكون سقطة في مسار، لا دلالة على مسار ساقط بالكلية!، كما نرجو أن يكون خللًا في التوازن وليس انكشافًا استراتيتجيًا كامل!.

اخر الأخبار