قصة قصيرة- فَراشةُ البوح (عمر حَمَّش)

تابعنا على:   13:25 2015-03-26

كنتُ هناك أقفُ في الزاويةِ الآسنة، إن أُسقطَ النعاسُ جبهتي؛ ردَّتها حبيباتُ الطلاء، وحيدا في الصمت، كآلةِ رصدٍ لزحفِ الزمان، أعضائي موزعة .. متباعدة .. رأسي منتصبةٌ في كيس، ذراعاي خلفي موصدتان، ينهبُ دمهما البعوض، قدماي تنتفخان في البعيد، أذناي تغادران؛ تغربلان الصوت الذي يأتي، ويروح، يلامسني متموجا، ثم يمضي تعذّبهُ الرِّيح. تقول عينايَ لعتمةِ الكيس: هذا عصر، هذا فجر ..

والصمتُ يعود، يخالطُه الطنينُ.

كانت أياما من صمتٍ وطنين، أمسيتُ كائنَ الكون الوحيدَ المتبقي على وجهِ الأرض .. صاغرا للّدغِ أمارسُ فنَّ الانتصاب، يسري في دمي خدَري، تغافلني رأسي، تسقطُ على صفحةِ الجدار، فتدقُّها حبيباته البارزة، أرفعُ قدما؛ لأحكَّ الأخرى، دمي كان طعاما شهيّا في البقعةِ الهائجة ...

أيامها عقلي العاملُ قال لي: هذه الحشراتُ جندٌ لهم مجندة، كانت مدربةٌ، تعملُ بدراية، تجاورني، وقبل أن تلدغ؛ تدورُ ما بين كيسي ودمي ...

الخدرُ عميق .. أطرافي ممالكُ نملٍ، جلدي قربة، منتصبٌ أنا في الصمت .. أغافلُ جسدي المنتصبَ؛ لأمضي، عقلي العاملُ كان يمضي كلّما اشتدّ الأمر ..

دروبُ سجنِ عسقلان أعرفُها، باحةَ الصلبِ الدائرية، قنواتِ الصرفِ العارية التي تُوقعُ المسحوبين، الدهليزَ الرطبَ، صفيَّ أبوابِ الزنازين، من هناكَ أهرّبُ عينيَّ، عيناي برفقةِ عقلي العامل، أجتازُ أبوابَ الحراسِ بابا بابا، أصلُ البوابةَ الضخمة؛ أحلّقُ، أصيرُ فراشة دوّخها العَطَنُ، أسقطُ في الدنيا، خلف بطن الغول، جسدي هناك، وهنا أنا فراشةُ ريح، أتجاوزُ خطوَ الغرباء المجلوبين، أصلُ مكان السوق، أمّي كانت هنا .. أبي كان هنا .. أعرفُ الطرقات، المسجدَ القديم، جدارَه الذي جعلوه حوانيت خمر، أرى الشعرً المعقوص يسيرُ تحت البرانيط، أشمُّ رائحةَ البلاطِ، جسدي هناك واقف، وأنا هنا، ومن مقبرة عسقلان يصلني نداء جدي، أدقق في الشواهد، في التواريخ، في أسماء العائلات التي كانت، أردّد تحيتي: سلاما أيّها العسقلاني القديم .. أقولُ لجدي كلاما، حتى يوقفني: اذهب، وقبّل نخلة الدار.

أعرفُ الأزقةَ، المنحنيات، باحاتِ لهوِ الصغار مع بدر السماء، بيتَنا الذي كان على حافة الوادي، سقيفةَ حارتنا حيثُ كانت سهرة الكبار، أنا فراشةٌ على باب السقيفةِ، تحلّقُ، تقطفُ مذاقَ الطينِ .. أدلفُ إلى صحن السقيفة، وأطرحَ السلامَ .. جسدي في الزاويةِ الآسنة هناك، روحي هنا فراشة ضوء، لا شأن لي بقدميَ المخدتين، بالصمت، بالطنين، بنداءاتِ "اعترف " أنا روحٌ نشطةٌ، فيها عقلٌ عامل، لا شأن لي بمعدةٍ خاوية، بقنواتٍ تُعثرني وأنا معصوبٌ هناك، إلى هنا أصلُ برشاقتي .. إلى نخلةِ جدي، بابِ الدارِ الذي لا يصدُّني، الجدار الذي شيّدهُ أبي، أبي عند الله الآن، في قبر المخيم، واريناه لمَّا انطفأ، جدي هنا، أبي هناك، بين قبريهما سياجٌ يفصلُ الأرضَ عن السماء، هنا على جدار الدار قال أبي:

ها قد جمعَنا ثانيةً الجدار!

أنا أطيرُ بوصيةِ جدي، ألامسُ جذع النخلة، وأتلمسُ طريقَ الذروة إلى رؤوسِ السعفِ!

لا شأن لي بجسدي في الزاوية، لو جرُّوه فوق القنوات، على أرضية قبو التحقيق، هو طينٌ قد يعودُ إلى عناصره، أنا فراشةٌ عشقٍ خالدة .. هم هناك يعوون: "اعترف" وأنا هنا أُسقطُ السلامَ على السقيفة، هم يُجنُّ جنونهم؛ وأنا على ذرى السَعفِ، أغني أغنيةَ جدي القديمة!

اخر الأخبار