«داعش».. 4 محطات من النشأة للصحوة ( الحلقة السابعة )

تابعنا على:   20:12 2015-03-24

القاهرة: «الشرق الأوسط»

تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات من فصول كتاب «من بوعزيزي إلى داعش: إخفاقات الوعي والربيع العربي»، من تأليف الكاتب والباحث السياسي المصري هاني نسيره، الذي يعمل حاليا مديرا لـ«معهد العربية للدراسات» بقناة «العربية» بدولة الإمارات. ورصد المؤلف في كتابه الصادر عن «وكالة الأهرام للصحافة»، الذي حصلت «الشرق الأوسط» على حق نشر حلقات من فصوله، سنوات الثورات العربية الأربع، وتابع الكاتب تشابهاتها واختلافاتها، وحاول تفسير أسباب تعثر ثورات ونجاح أخرى في إسقاط من ثارت في وجهه، حين اشتعلت من جسد بوعزيزي بتونس وأشباهه في مصر، إلى الانتقال من دعوى الربيع العربي ووعده وأمنياته، إلى حقيقة «داعش» الداهمة.

 

وفي ما يلي الحلقة السابعة من الكتاب:

دعوى الإمارة الإسلامية

يطلق اسم «داعش» إعلاميا على ما أطلقوا عليه الدولة الإسلامية في العراق والشام، ولا يتسمى به أصحابها، فهم يشيرون لتنظيمهم بالدولة أو الإمارة الإسلامية، كما جاء في تسجيل أبو محمد العدناني في 12 مايو (أيار) الماضي 2014، كانت نواتها الأولى «دولة العراق الإسلامية» التي تم إعلان تأسيسها في 15 أكتوبر سنة 2006، ثم سقطت عام 2007، وعادت بقوة العامين الأخيرين 2013 و2014.. أما ولايتها السورية، فقد تم إعلان تأسيسها في 10 نيسان/ أبريل سنة 2012، بعد يوم واحد من استتباع فرع القاعدة في العراق على لسان أميره أبو بكر البغدادي لجبهة النصرة بقيادة أبو محمد الجولاني، ولكن الأخير لم يقبل، فحدث انقسام لتضم النصرة غالبية السوريين المقاتلين معها، وينشق عنها 70% من عناصرها مؤسسين لداعش بقيادة مباشرة من أبي بكر البغدادي الذي تولى قيادة التنظيم في أبريل سنة 2010، ويقدر المنشقون المؤسسون لداعش بنحو 12 ألف عنصر مقاتل تقريبا في سوريا.

 

المحطة الأولى: دولة العراق الإسلامية (أكتوبر سنة 2005 – 2006)

تم إعلان ما يسمى دولة العراق الإسلامية أول مرة في العراق في 15 أكتوبر 2006، واتخذت من الأنبار عاصمة لها، وقد أسقطتها صحوات الأنبار عام 2007 وطردتها من عاصمتها الأنبار، وظلت في تراجع كبير عامي 2008 و2009 بفعل مجالس الصحوات التي ظهرت عامي 2006 و2007، ولكن استهداف المالكي للصحوات والقضاء عليها عام 2009 وسياساته في التمييز الطائفي أعطى لعناصر القاعدة في بلاد الرافدين أو عناصر الدولة فرصة كبيرة في العودة وإحياء دولتهم كما نشاهد الآن، وهو ما سبقوه في وثيقة استراتيجية أعلنوها في 15 يناير سنة 2010، حيث أكدوا أن إقامة هذه الدولة المشروع الأساسي للقاعدة في العراق الآن.

سيطرت دولة العراق الإسلامية (داعش فيما بعد) في أثناء قيامها على المناطق التالية: بغداد، الأنبار، ديالى، صلاح الدين، نينوى، بالإضافة إلى كركوك. كما ضمت مناطق أخرى مثل بابل والأوسط، واتخذت من الأنبار عاصمة لها، وأعلنت ذلك سنة 2006.

أعلن قيامها حينئذ الشيخ أبو عبد الله الجبوري، المتحدث باسم دولة العراق الإسلامية، ويبين سياق إقامتها في ظل الكونفدراليات المحتملة في العراق، قائلا: «فبعد أن انحاز الأكراد في دولة الشمال، وأقرت للروافض فيدرالية الوسط والجنوب، وبدعم من اليهود في الشمال والصفويين في الجنوب، تحميهما ميليشيات عسكرية سوداء الفكر والقلب والعمل، فأوغلت في دمائهم، وعرضتهم لأبشع صور القتل والتعذيب والتهجير، حتى صار أهل السنة كالأيتام على مؤدبة اللئام» (1).

ثم يجدد ضرورة قيامها قائلا: «صار لزاما على شرفاء وأحرار أهل السنة من المجاهدين والعلماء العاملين والوجهاء تقديم شيء لإخوانهم وأبنائهم وأعراضهم، خاصة في ظل هذه المسرحية الهزيلة المسماة (دولة المالكي)، والتي شارك في أدوارها - وللأسف - خونة أهل السنة، فلبسوا على الناس دينهم وأضاعوا عن عمد حقوق شعبهم» (2). ثم يضيف: «وعليه، يزف إليكم إخوانكم في (حلف المطيبين)؛ بشرى إنشاء وإقامة (دولة العراق الإسلامية) في بغداد والأنبار وديالة وكركوك وصلاح الدين ونينوى وأجزاء من محافظة بابل وواسط، حماية لديننا وأهلنا، وحتى لا تكون فتنة وتضيع دماء وتضحيات أبنائكم المجاهدين سدى» (3).

وأعلنت هذه الدولة، المحطة الأولى لداعش، عن التضامن والاندماج بين عدد من المجموعات السلفية الجهادية، مثل «جيش الفاتحين، جند الصحابة، كتائب أنصار التوحيد والسنة»، وجميعها كانت تحت قيادة أبي عمر البغدادي (قتل سنة 2010) العراقي الجنسية، حيث قدم نفسه «كأمير للمؤمنين» في الدولة الإسلامية العراقية، وبعد ذلك بفترة قصيرة جدا، انضمت إليه جماعات أخرى هي: «سرايا فرسان التوحيد»، «سرايا ملة إبراهيم» (4). طبعا لا بد من الإشارة هنا إلى انضمام الكثير من زعماء القبائل السنية (خوفا أو رغبة) إلى أمير هذه «الدولة» مع إحساس السنة هناك بالتهميش والغبن.

 

المحطة الثانية: السقوط الأول.. ومعركة الصحوات

اعتمدت الاستراتيجية الأميركية قبل الخروج الأميركي من العراق في 18 ديسمبر عام 2011، في مواجهة القاعدة، على تكوين مجالس للصحوات العشائرية، قادها في البداية الشيخ الراحل عبد الستار أبو ريشة، شيخ الدليم في قبيلة الأنبار، الذي اغتالته القاعدة في 13 - 9 - 2007 بتخطيط مما سمته وزارة الأمن فيها، لكن استمرار الصحوات ونجاحها في مواجهة القاعدة ودولة العراق الإسلامية وطردها من كثير من مناطق نفوذها في الأنبار والفلوجة وبعض مناطق الشمال العراقي، مثل تحديا كبيرا وتراجعا مؤثرا وواضحا لم تُعِدْه سوى سياسات المالكي في استهداف الأنبار والصحوات والتمييز الطائفي مجددا.

اعترفت دولة العراق الإسلامية بسقوط دولتها في وثيقتها الاستراتيجية أوائل يناير سنة 2010، ولكن أكدت إمكانية العودة، مستغلة التخبط والتبدل في الأجندة الأمنية الحكومية العراقية وتغيرها من استثمار الصحوات إلى استهدافها واستهداف عناصرها المستهدفين من القاعدة وقواتها ابتداء، مما ساعد في عودة القاعدة وقيامها بعدد من العمليات الكبيرة منذ سبتمبر سنة 2009 حتى أبريل سنة 2010 رغم استهداف ومقتل أميرها ونائب أمير الدولة أبي حمزة المهاجر، وأميرها أبي عمر البغدادي في العشرين من أبريل 2010.

 

المحطة الثالثة: سوريا وفك الارتباط بالقاعدة

بعد مقتل أبي عمر البغدادي في أبريل سنة 2010 وتولي أبو بكر البغدادي بعده في نفس الشهر، أكد الأخير على ولائه لزعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن المقتول في 2 مايو سنة 2011، وأعلن بيعته له، كما استعاد نشاط القاعدة بقوة، واستطاع تنفيذ استراتيجيته الثانية في استعادة الدولة والقضاء على الصحوات وتنشيط عملياتها والتمدد في سوريا، ولكن بعد وفاة بن لادن في مايو سنة 2011 الذي هدد البغدادي بأن يثأر له بمائة عملية ضد الأميركان انتقاما لمقتله، في 15 أغسطس سنة 2011، وتولي الظواهري، لم يسارع البغدادي ببيعته ووصلت المراحل في النهاية لفك الارتباط. ويمكن القول إن داعش ترى نفسها الآن أولى واقعيا وعمليا بقيادة الجهادية العالمية، من القاعدة، وأثبت ركنا وغلبة منها.

تأكد ذلك في 12 مايو الماضي 2014؛ حيث قطعت داعش، أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، علاقتها مع القاعدة، في تسجيل صوتي بعنوان «عذرا أمير القاعدة»، زادت فيه وطالبت تنظيم القاعدة وأميرها الظواهري ببيعتها كإمارة ودولة، كما فعل، وفعل شيخه بن لادن مع طالبان والملا عمر سابقا، على لسان أبي محمد العدناني - المتحدث باسم داعش في العراق والشام -، وتوالت انتقادات قيادات القاعدة لتنظيم الدولة بعد مقتل أبي خالد السوري أواخر فبراير سنة 2014، الذي اتهمت فيه داعش، رغم تبرئها منها.

واتسعت الهوة بينها وبين القيادة المركزية للقاعدة وغيرهم، وتوالت انتقادات الظواهري وآدم غادان وآخرين كأبي قتادة الفلسطيني في مارس وأبريل سنة 2014، لها بالغلو والشطط والتطرف! ولكن الحقيقة أن هذا التنظيم الجهادي العنيف صار الأقوى سوريا وعراقيا، وحقق دولة لم تنجح القاعدة في إقامتها وظلت مجرد تنظيم تابع لطالبان، في ظل الفوضى والتوحش والأنظمة الفاشلة في العراق وسوريا، وصارت تأتيها البيعات من درنة في ليبيا إلى غدامس في الجزائر، وهاجر إليه بعض قيادات القاعدة التاريخيين مؤيدين له مثل البحريني تركي البنعلي، الشهير بأبو بهجة الأثري، وكتب كتيّبا في بيعة البغدادي وشرعيتها.

 

الحاضنة السورية وقود داعش

ولدت الثورة السورية في 15 مارس سنة 2011 تظاهرات سلمية، من براءة ورسومات الأطفال في درعا، ثم اتقدت من عدم اعتراف النظام العنيف بهذه البراءة والعفوية، بعد أن قبض عليهم في 26 فبراير من نفس العام. ولعل انطلاقتها الأهم يوم الجمعة 18 مارس سنة 2011 تحت شعار «جمعة الكرامة» في كل من درعا ودمشق وحمص، مما زاد النظام غضبا وعنفا، وجعلها تنتقل بين سائر المناطق في سوريا محتفظة بسلميتها على المنوال نفسه الذي اتخذته سواها من الثورات العربية في مصر وتونس.

اختلفت الثورة السورية بأنها لم تبدأ من العاصمة دمشق شأن سواها من الثورات، كما لم يتقدمها نخب سياسية في بدايتها، كما اتسمت في البداية بترددها وانخفاض سقف شعاراتها أمام نظام الخوف البعثي، فهي لم تستهدف إسقاط النظام في البداية، ولكن كانت تطلب التغيير والإصلاح السياسي، وكانت ترفض - لمدة تزيد عن العام - التدخل الخارجي لوقف عنف النظام الأسدي تجاه شعبها، الذي استعان بميليشيات جهادية شيعية مثل لواء أبي الفضل العباس، وحزب الله، وعصائب الحق، والنجباء.. وغيرها، التي استثارت الثارات الطائفية الأخيرة واستنفرت شبابها للقتال من أجل قبر زينب في دمشق، واستجلبت إيران مقاتلين من الهزارا الأفغانية ومن الطائفة الشيعية في إيران، كانت تدفع لهم رواتب جيدة للقتال في سوريا.

وبلغ القمع الأسدي أوجه، وتجاوز الخط الأحمر - حسب الولايات المتحدة - باستخدامه سلاحه المدفعية ضد شعبه في يناير سنة 2012، ثم استخدامه السلاح الجوي لأول مرة في أبريل سنة 2012، ثم استخدم الطائرات الحربية في أغسطس من نفس العام، وأكملها بالكيماوي منذ ديسمبر سنة 2012. وفي 8 سبتمبر سنة 2013 أشار وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى استخدام الأسد السلاح الكيماوي إحدى عشرة مرة ضد شعبه، وهو ما وصفته الإدارة الأميركية في أبريل وفي يونيو 2013، بأنه تجاوز الخطوط الحمر، وهي نفس الفترة التي ظهرت فيها داعش لأول مرة، ولم تظهر النصرة إلا في ديسمبر سنة 2012 مع الاستخدام الأول للكيماوي، وبعد شهور من استقدام الأسد واستجلابه الميليشيات الجهادية الموالية له! فمن فظاعاته، شرعنت وجودها، ومن تجنب كل منهما للحرب مع الآخر، نضجت داعش لتشرعن بقاء الأسد كذلك.

هذا بعد أن استقال الحل السياسي في سوريا مبكرا، ربما قبل استقالة المبعوث الدولي كوفي عنان في 2 أغسطس 2012، أو استقالة الأخضر الإبراهيمي التي تأخرت طويلا في 13 مايو سنة 2014، ورغم محاولات الموفد الحالي للأمم المتحدة دي ميستورا، لتستمر مأساة سوريا وشعبها، وتتحول لملاذات آمنة، ضمنت فيه داعش البقاء وتطالب القاعدة بالبيعة، كما ضمن الأسد بها حجته للاستمرار! وصار بقاء الاستبداد الأسدي مرتبطا ببقاء الإرهاب الداعشي، والعكس! بينما ترتبط الثورة بآمال السوريين وحدهم في نهاية مأساة من كليهما.

حدث التوحش باستمرار التردد والارتباك الأميركي والدولي، وتكرار عقبة الفيتو الروسي الصيني لأخذ أي إجراء رادع ضد نظام الأسد الذي تجاوز الخطوط الحمر، وأفشل كثيرا من المبادرات للحل السياسي، حتى استقال الوسطاء الدوليون من مهمة مستحيلة! بدءا من كوفي عنان في أغسطس سنة 2012، إلى الأخضر الإبراهيمي في 13 مايو سنة 2014، وتحولت في عهده سوريا من جمهورية للخوف قبل الثورة إلى منطقة توحش، تمثل ملاذا آمنا لتنظيمات الإرهاب، في هدنة غير معلنة بينه وبينها، حيث يستفيد كل منهما من بقاء الآخر.

 

الجهاد ليس سنيّا فقط في سوريا

من الخطأ الشائع الذي يقع فيه بعض الخبراء الغربيين حصرهم مفهوم «الجهاد والجهادي» في المسلم السني والإسلاموية السنية العنيفة، والتركيز على جبهة النصرة وداعش وأخواتهما، دون التركيز على ميليشيات حزب الله، وعصائب الحق.. وغيرها التي تتحرك بنفس المفهوم، وإن كان تصور العدو فيها طائفيا، فقد خاض حزب الله في سوريا معارك مرعبة في حلب والقلمون ودرعا وغيرها، سقط منه خلالها مئات القتلى، ووقع منه عشرات الأسرى، وكان ذلك قبل أن تكون هناك نصرة ولا داعش في سوريا. وليست هذه الميليشيات الطائفية الجهادية التي ساندت الأسد، واستجلبهم الأخير، إلا المبرر الأول الذي استنفر أمثال داعش والنصرة فيما بعد.

من نافل القول التذكير بأن مفهوم «الجهاد الحر المقدس» موجود في كل الأديان، وإن كان يحتل مرتبة مركزية خاصة في الإسلام سواء على مستوى النصوص التأسيسية المقدسة، أو على مستوى التاريخ الذي ربط فكرة الجهاد الديني بفكرة الفتوحات تاريخيا، وبفكرة المقاومة المعاصرة، ولا يمكن حصره طوال الحروب ذات اللون الطائفي بين الخلافة السنية ودول الطوائف، في طائفة واحدة، فكل القتلى كان يعتبرهم حزبهم شهداء وكل الحروب مقدسة!

ولعل هذا الخطأ الفادح منهجيا، وخصوصا في قراءة ثورة كالثورة السورية، يعود بشكل كبير إلى ربط الجهاد بحركات الإسلام السياسي المعاصرة، وبدئها سنية بالأساس، دعوة للنضال من أجل استعادة وحدة المسلمين ونظام الخلافة التاريخي، وكان ظهورها جميعا بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، وتراوحت من أجل هذه الاستعادة بين الدعوة والانقلاب العنيف! وبين التصالح مع الحداثة والمدنية، أو رفضها! فقد وجد الجهاد كذلك في الحركات الإحيائية الشيعية، وبنفس مضامين القضايا غالبا، فقد تأخرت حركات الإسلام السياسي الشيعي المعاصر كثيرا عن نظيراتها السنية، لكن لا شك تأثرت بها، بل تماهت معها، كما يتضح من مسارات حزب الدعوة الإسلامي العراقي، أو حزب الله اللبناني عربيا، أو جماعة جند محمد الشيعية في باكستان. ولا توجد إلا فروق شكلانية بين حركة أحرار البحرين الشيعية في تطرفها الطائفي التكفيري، وبين أي حركة جهادية مسلمة سنية كالقاعدة أو النصرة أو غيرها، بل نرى أن مفهوم الجهاد والمواجهة المسلحة أكثر عمقا تاريخيا في الفكر الشيعي منه في الفكر السني، لمركزية فكرة مظلومية آل البيت فيه منذ نشأته، وكذلك مركزية فكرة المهدي المخلص والمحارب الذي ينتظره جنوده، سواء في غيبته أو في تمهيد الولي الفقيه المحدث له عند الإمامية المعاصرة. ولعل الميثولوجيا الروحية الباطنية الراسخة هي التي دفعت وزيرا إيرانيا يوم 20 مايو سنة 2013 بأن يعد بأن يبث صوت وصورة المهدي عبر الغلاف الجوي صوتا وصورة عشية الانتخابات الإيرانية. (5).

بل يمكننا التأكيد على أن رسوخ مفهوم الخروج - المجابهة - يمثل مركز العقيدة الزيدية، بدرجة ربما أكثر عمقا من التراث السني نفسه، الذي رأى فيه فتنة وخروجا على الطاعة. ولعل في الثورة اليمنية الدستورية في أربعينات القرن الماضي، أو في الحرب الحوثية السابعة التي شاهدناها منذ انتهاء الحوار الوطني في اليمن حلقات منذ يناير 2014، وتسميات معاصرة نشاهد مشاهدها المسلحة في اليمن مثل جماعة أنصار الله الحوثية، دلالة قوية على ذلك.

 

وجود متأخر للقاعدة والجهاديين السنة في سوريا

نشطت الدعوات من قبل بعض منظري القاعدة مثل أبي المنذر الشنقيطي، تأذن لطالبي الجهاد في الدخول إلى سوريا، مع التحذير من التوجهات والشعارات المدنية والعلمانية، وكان التدخل المتأخر بعد تمدد الثورة في مختلف المناطق السورية، وفقدان النظام السيطرة على بعض المناطق داخلها، وبدأ هذا التدخل فرديا قادما من دول الجوار في لبنان والعراق، حيث كتائب عبد الله عزام، والقاعدة في العراق، وبعض البلدان الأخرى، التي سبقت أن دخلت العراق عقب حرب تحريره عام 2003 عبر سماح وتشجيع النظام السوري نفسه لها بالتدخل، وبرز على الساحة العراقية أسماء كأبي مصعب الزرقاوي، وأبي أنس الشامي، وأبي محمد الجولاني، وغيرهم ممن دخلوا عبر الحدود السورية العراقية في الأساس! ولكن ما يعنينا هنا هو تأخر دخول القاعدة على الثورة السورية، وهو ما لم يكن يحدث لولا عسكرة النظام للثورة مع ضعف الضغط الدولي والعربي عليه، وفي نفس السياق تأخر تشكيل جبهة النصرة وأشباهها إلى أواخر العام 2011 تحديدا.

في تسجيل صوتي ظهر لأول مرة يوم الثلاثاء 9 أبريل، أعلن أبو بكر البغدادي أمير تنظيم القاعدة في العراق، أن جبهة النصرة هي امتداد لتنظيم القاعدة في العراق وجزء منها، وأن زعيمها أبا محمد الجولاني هو أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وأنه قد تم إلغاء اسم «دولة العراق الإسلامية» واسم «جبهة النصرة» وإعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ولكن بعد ذلك بيوم واحد (يوم الأربعاء 10 أبريل) خرج علينا أبو محمد الجولاني الذي وصف بأنه المسؤول العام عن جبهة النصرة، منكرا، في تسجيل صوتي كذلك، علمه بما أعلنه أمير ما يدعى دولة العراق الإسلامية، وقال الجولاني إنه إذا كان الإعلان حقيقيا فـ«لمن ستشتري ولمن ستأمر»، ولكن استدرك قائلا: «إني لأستجيب إذن لدعوة البغدادي، حفظه الله، بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى»، معلنا بيعته للظواهري وللقيادة المركزية للتنظيم، قائلا: «هذه بيعة منا أبناء جبهة النصرة ومسؤولهم العام نجددها لشيخ الجهاد الشيخ أيمن الظواهري، حفظه الله، نبايعه على السمع والطاعة..».

جاء كل هذا الجدل حول البيعة بين النصرة وداعش، الذي زاد المواقف الغربية ترددا على ترددها، بل تبدو مسألة الترويع والرغبة في إرهاب السوريين والعالم معا استراتيجية واضحة لدى النصرة أيضا من قبيل ما نسب.

 

المحطة الرابعة: فشل المالكي.. واستعادة داعش دولتها في العراق

كانت عودة داعش القوية منذ العام 2013 بعد فض قوات المالكي الأمنية اعتصام الأنبار بالقوة في يناير هذا العام 2013، وهو نفس التاريخ الذي كان أول ظهور لأبي محمد العدناني، وكان حينئذ متحدثا باسم القاعدة في العراق، قبل أن يعرف بالمتحدث الإعلامي باسم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مستنفرا أهل الأنبار للجهاد والثأر من هذا التمييز الطائفي الذي يمارسه المالكي ضدهم، واستمرار سياسات القمع والتهميش والتمييز الطائفي التي يتبعها المالكي منذ الجلاء الأميركي في ديسمبر سنة 2011، وغدت العراق أكثر بلد في العالم يتعرض لعمليات إرهابية وعنفية في العالم، ووفقا لمنظمة «إيراك بادي كاونت» غير الحكومية كان العام 2013 الأكثر دموية منذ 2008 مع مقتل 9475 مدنيا.

قتل المالكي الصحوات وأحيا داعش.. التي يبدو أنها قد تعاطفت معها عناصر من العشائر.. واستمرت معارك الأنبار والفلوجة بين الجيش الذي توالت أخطاؤه في استهداف مدنيين ومشاف وأبرياء، وعناصر داعش، ووقعت عشائر الأنبار بين مطرقتها وسندان سياسات المالكي وقواته التي لا تحسن إدارة المعارك كما شهدنا في الموصل مؤخرا.

في 11 يونيو سنة 2014 سقطت الموصل بالكامل في يد داعش، وهي ثاني أكبر المدن العراقية، وبقية مدن محافظة نينوى، وقبلها سقطت مناطق واسعة من محافظة الأنبار، ومحافظة صلاح الدين على الطريق. كل ذلك تم في ظرف زمني قياسي، فاجأ العالم، وأخافه، وصارت «داعش» الإرهابية، المنسلخة عن «القاعدة»، تحقق أكبر انتصارات للتنظيم منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن، تعبر حدود الدول، وتقطع أنابيب البترول، وتستولي على المدن واحدة تلوى الأخرى! تركت له قوات الأمن معداتها وفرت هاربة، ليتسلم المال والأسلحة و450 مليون دولار في بنوك الموصل ونينوى، ويحرر آلافا من أنصاره.

يقدر البعض عدد المهاجمين من داعش على الموصل بـ3 آلاف مسلح، استطاعوا السيطرة على المدينة وأطلقوا سراح أكثر من 2500 معتقل من سجن بادوش، وهو عدد خطير إذا كان هؤلاء رصيدا مضافا لانتحاريي داعش وعناصرها! خصوصا أن داعش اتجهت جنوبا إلى بيجي والصينية التابعتين لمحافظة صلاح الدين. نجح المالكي في أن يقتل الصحوات وأن يمكن لسوء العلاقة بين الجيش والأهالي الذين يشتكون دوما من الإهانات والاعتقالات العشوائية التي توجه لهم من عناصر القوات الأمنية، وهو ما يجعل طرح أو خيار اللجان الشعبية الذي طرحه محافظ الموصل أثيل النجيفي خيارا مستبعدا أو غير ممكن!

فشل المالكي يتجلى في معارك الفلوجة التي تدخل الأزمة فيها شهرها السادس دون حسم، ويخاف أن يتكرر نفس السيناريو طويلا ببقاء الموصل بيد المسلحين، ويقوم الجيش بقصفها عن بعد بالطيران والمدفعية.. سيناريو الفلوجة الذي لم يحل مشكلتها بعد!

ختاما نجحت داعش في العودة للتمكين لدولتها في العراق، وبعد أن كانت محصورة في الأنبار في دولتها الأولى سنة 2007، غدت تتمدد في سوريا والعراق معا، لتكون بفضل فشل المالكي والأسد معا، الدولة الإسلامية في العراق والشام.. طالبان جديدة أكثر خطورة على ما يبدو! وتبدو أكثر قدرة وإرادة من القاعدة، وقد ترثها في قيادة الإرهاب العالمي كما ورثت تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين سابقا.

اخر الأخبار