عودة اليسار الأوروبي

تابعنا على:   10:37 2015-01-31

مصطفى زين

لم تمض أيام قليلة على فوز حزب «سيريزا» اليساري في الانتخابات اليونانية وتشكيل الحكومة برئاسة أليكسي تسيبراس حتى بدأت أثينا تنتقم من تهميشها وإفقارها داخل الاتحاد الأوروبي، فحالت معارضة وزير خارجيتها الجديد نيكوس كوتزياس، قبل يومين، دون اتخاذ الاتحاد قرارات جديدة لمعاقبة روسيا. وجاءت معارضته لتضع حداً لحصول إجماع على أي قرار توافق عليه برلين وباريس ولندن (بالتنسيق مع واشنطن).

واقع الأمر أن «الطبقة الحاكمة» في أوروبا فوجئت بفوز اليسار الراديكالي، ممثلاً بحزب «سيريزا» في الانتخابات اليونانية. فقد مرت عقود على استتباب الأمر لليمين المحافظ ويسار الوسط في الحكم، خصوصاً في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، حيث خبت أصوات الأحزاب الشيوعية وحركات اليسار، حتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بسنوات. وأتى انهياره ليشكل ضربة قاصمة لهذه الأحزاب. وبدأ يسار الوسط الممثل بحزب العمال في بريطانيا أو الاشتراكي في فرنسا، يتبنى طروحات اليمين ويزاود عليه في تبني الليبرالية الجديدة. الجميع يتذكر إصلاحات توني بلير النيوليبرالية، وميوله الحربية، وتحالفه مع جورج بوش الإبن. والجميع أيضاً يتذكر مزايدة الاشتراكي فرانسوا هولاند على اليميني نيكولا ساركوزي في استعادة أمجاد الاستعمار القديم في أفريقيا والشرق الأوسط.

ما حدث في اليونان، إذاً، كان مفاجأة للأحزاب الحاكمة التي تصورت أنها استطاعت الانتصار، ولم تعد في حاجة إلى التجديد، طالما ليس هناك من ينافسها، وطالما أن الشعوب استكانت للواقع، وكلمة يساري أصبحت شتيمة. لكن ذلك لم يكن مفاجئاً لأي متابع لحركة التاريخ التي لم تتوقف، على رغم تأكيد فوكوياما قبل سنوات. ولم تستطع البوشية، ولا منظروها الجدد، من أميركيين وأوروبيين (وعرب)، وضع حد لطموحات الشعوب وتوقها إلى الحرية والاستقلال.

توق إلى الحرية جعل الشعب اليوناني يسير وراء حزب «سيريزا» وزعيمه الشاب الذي تحدى الاتحاد الأوروبي، مطالباً بإعادة النظر في الديون التي أرهقت الشعب ووافقت عليها الأولغاريشيا اليونانية، واعداً بوضع حد للتقشف الذي تفرضه المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي على أثينا كي تستطيع دفع ما يترتب عليها من فوائد الدين، في وصفة تعرفها معظم دول العالم الثالث التي تجبر على إلغاء دعم المواد الأساسية وتجويع شعوبها لتلبي مطالب المؤسسات المالية الدولية (اقرأ الأميركية).

وفي مؤشر مهم إلى رفضه إملاءات ألمانيا، وهي رائدة الاتحاد الأوروبي اقتصادياً، توجه تسيبراس فور إعلان فوزه في الانتخابات إلى زيارة مقبرة مواطنيه الذين قتلهم النازيون الألمان، خلال الحرب العالمية. وأكد أنه لن يرضخ لبرلين، وأن سياسة المستشارة أنغيلا ميركل تشكل خطراً كبيراً على بلاده.

والحال أن نهوض اليسار في اليونان لن يقتصر عليها وحدها فهناك أحزاب في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وفرنسا ضد سياسة الاتحاد الأوروبي النيوليبرالية، وقد تُفاجأ بروكسيل بوصول أحدها إلى السلطة.

لكن أمام تسيبراس، الذي يعتبر وصوله إلى السلطة بداية لعودة اليسار إلى لعب دور في السياسة الأوروبية، الكثير من الصعوبات، فهو يواجه قوى متمكنة في الحكم ولها حلفاؤها والمدافعون عنها في سائر القارة القديمة، فضلاً عن الولايات المتحدة. أما تلويحه باللجوء إلى روسيا، وله فيها مؤيدون في السلطة، فضلاً عن مؤيديه في المؤسسة الكنسية، باعتبار اليونان أورثوذكسية، فسيزيد عليه الضغوط. لا موسكو قادرة في وضعها الحالي على مساعدته مالياً، ولا الأوروبيون، شعوباً وأحزاباً، مستعدون لخوض معركة تغيير الأنظمة، ونسف أسس اتحادهم. وهو يعرف ذلك تماماً ويعرف أنه في حاجة إلى أموال الاتحاد، لذا اعتمد خطاباً مهادناً لبروكسيل، داعياً إلى إعادة النظر في شروط الدين، مع الإصرار على إلغاء قوانين التقشف ليحافظ على شعبيته في بلاد أكثر من نصف شعبها تحت خط الفقر.

معركة تسيبراس داخل الاتحاد الأوروبي طويلة ومعقدة جداً. لكنها مؤشر مهم إلى عودة اليسار ليمارس دوره في الحياة السياسية والثقافية في القارة القديمة.

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار