تحديات أوروبية تنتهي بالاستجابة للماضي

تابعنا على:   12:07 2015-01-28

مروان صباح

 في غمرة المشهد المعقد لحادث شارلي هبدو الأسبوعية ، وعلى فكرة هو مجرد تصحيح خطأ شائع ، تكتب كلمة هبدو ، بهذا الشكل وليس كما تناقلها الإعلام العربي ، إبدو أو ابيدو ، لأن عندما نعود إلى جذر المصطلح يتضح أنه قادم من اللغة اليونانية ، وبالتالي ، هي بالأصل تكتب بالأحرف الأجنبية Hebdo والتى تعني ( سبعة ) أي الأسبوع ، لكن ، بمقدور العقل أن يتلمس جملة ملاحظات ، نبدأ بالحادث الأخير ، لم يكن الحادث بالغريب بقدر ما كان متوقعاً حدوثه ، فهو ليس الأول ولن يكون الأخير بالطبع ، بل ، تكراره وانقطاعه مرتبط بنتائج ما يدور داخل الساحات العربية من حروب وقتل ودمار ، وطالما المعارك مستمرة ، يعني ، أن السيناريوهات معرضة على الدوام للكشف عن حقائق مخفية وراء سلسلة تدخلات لدول تحاول أن تعيد دورها الاستعماري من خلال اشعال الفتن وخلط الأوراق الطائفية وأخرى مذهبية تحركها حسب مصالحها وأخرى إقليمية مُرجئة إلى اشعار زمني قادم قد لا يطول ، والملاحظة الأهم ، هي ، تضخيم حادث شارلي هبدو والطريقة التى تعاملت أوروبا مع الواقعة ، بالتأكيد ، هناك ترتيبات قادمة على قدم وساق .

هذه المرة كما في كل مرة يسارع الإعلام العربي الهابط ، إلى تأثيم ما جرى في وسط باريس ويخترع شتى التهم وبتلفيق أشد الروايات كأنه عامداً يريد شيطنة المسلمين فرنسا ، خاصةً ، والمسلمين أوروبا ، عموماً ، دون أن يشير ، بالطبع ، إلى خطوات كثيرة أدت إلى استفزاز ملايين المهاجرين البارحة ، مواطنين اليوم ، ليتضح مع جملة اتضاحات ، أمراً بالغ الأهمية ، وبالرغم ، من مسيرة طويلة من التضحيات التى قدمها الآباء الأوائل من خلال انخراطهم في حروب عديدة دفاعاً عن اوروبا وعلى وجه الخصوص فرنسا بالإضافة إلى انخراط ، لا يقل أهمية عن الأول ، في اعادة بناء الدولة بعد ما دمرتها الحرب العالمية الثانية ، لكن كما يبدو لم تُأسس المرحلتين لأي نوع من الاعتراف البسيط حتى لو بالحد الأدنى لحقوق المهاجرين وظلت المساواة مختزلة على المواطنين الأصليين ، الذين بقوا حسب تصنيف الحكومي والمجتمع بالغرباء في دولة تعتبر أنها تحمل رسالة الحرية والديمقراطية والمساواة مثل فرنسا ، حيث ، سجلت بجدارة اخفاقاً في امتصاص قلة من المهاجرين ثم صرهم ببوتقتها ، يعني ، هذا ينفي كل ما قيل ويقال حول العدالة والمساواة وما قيل لا يتجاوز سوى خطاب لا يصل صوته أبعد من اذنين من أصدره ، وتكشف لحظة الاختبار عن سطحية بلهاء كلما تعرض المجتمع لامتحان أو موقف معين ، يخرجوا الفرنسيين من حفلتهم التنكرية ويصبوا عنصريتهم على المهاجرين المسلمين والعرب .

الاسلام في اوروبا ليس حديث العهد ويقدر العدد الاجمالي للمسلمين بحوالي 60 مليون نسمة بينهم أكثر من 16 مليون في الاتحاد الاوروبي ويقطن الجزء الأكبر في مناطق ذات الأغلبية مسلمة في أوروبا ، هي ، ألبانيا كوسفو وأجزاء من البوسنية والهرسك وبعض المناطق الروسية وشمال القوقاز ومنطقة الغولفا التى يسيطر عليها مسلو من السنجق حتى تصل إلى اطراف الجبل الأسود ، وجزء أيضاً من تركيا ، فهو أوروبي كذلك اذربيجان وكازاخستان ، كأن التاريخ يشير هذه المرة بقوة الوقائع ودلالاته الحية ، حيث ، لا يستطيع انكارها حتى الجاهل ، بأن الجهد الذي بُذل لإسقاط الاتحاد السوفيتي لم يكن يقابله جهد نوعي ومعرفي لما يمكن أن يفرزه ما بعد السقوط ، بل ، الحلف الناتو اكتفى باعتبارها خطوة كبرى كما اعتبرها النظام الرأسمالي بالانتصار الفكري ، إلا أن ، تداعيات هذا التفكيك ، الأوسع ، مازال يتقاذف نتائجه تباعاً ، ولأن ، المسألة لم تكن فقط بتدفق المهاجرين الجدد بعد عام 1950 م بقدر ما تركه تفكيك الإتحاد السوفيتي من مناطق واسعة الانتشار بالمسلمين افرزت على مدار القرون ثقافة وهوية ، وبالإضافة ، لمرجع تاريخي ، راسخ برسوخ العقيدة ، بالطبع ، وحسب تقدير مراكز الاستطلاعات المتخصصة في النمو السكاني تُبرز بأن الاسلام هو الدين الأسرع بين الأديان نمواً في اوروبا ويرجع ذلك إلى ثلاثة أمور يتعلق الأول بالهجرة والثاني بسبب الحفاظ على المؤسسة الزوجية هناك دائماً ارتفاع بالولادة ، أما الأخير ، فهو يتعلق بانتشار رجال الدعوة بين الناس وتكثيف المناقشة بهذا الخصوص ، حيث ، تضاعف عدد المسلمين في القارة الباردة ثلاث مرات خلال ال 30 سنة ومعظم الديمغرافيين يتوقعون أن تكون معدلات النمو أعلى في المستقبل ، هنا تكمن وتكشف عن أصل الأزمة التى تعيشها أوروبا ، هي ليس سواها ، سارعت بعد الحرب العالمية الثانية بتعويض نقصها من الأيدي العاملة إلى فتح أبواب لمن يرغب بالهجرة إليها ، واليوم تعيش أزمة ثقيلة ، هي ، افتعلتها وحرصت على تطويرها حتى أصبحت بمركبها الثقافي أشد وأعقد من إيجاد حلول فورية تليق بحضارتها ، لأن ، الثقافة التى سيرثها أطفال القارة الباردة في السنوات والعقود القادمة ، بالطبع ، تختلف اختلافاً كبيراً عما اوروبا كانت عليه تقليدياً ، وبالرغم ، من الحداثة والتحضر التى تشهده اوروبا ، إلا أن ، هناك أزمة حقيقة ابتدأت بعد ثورة الأنوار ، أدت ، المفاهيم الجديد إلى الحد من الانجاب لدرجة أصبح المعدل النمو تحت الطبيعي ، هذا ، بالتأكيد يعرض أي ثقافة من الاستمرار في الوجود ، وان ، أي ثقافة لا تمتلك الحد الأدنى من نسبة النمو مصيرها الاندثار الحتمي ، إذاً هذه ، مناسبة أخرى لاستعادة سؤال بات يتكرر على لسان كل أوروبي ، حول مصير اوروبا وروسيا في حلول عام 2050 م ، حيث ، نشرت جريدة برافدا قبل بضع سنوات تتساءل هل سيكون الاسلام دين روسيا كما هو حال هولندا اليوم التى رصدت مواليد مواطنيها الجدد ، فتبين ، بأن 50 % منهم مسلمين ، هنا ننقطع لنعود إلى حادث شارلي في قلب باريس لنؤكد بأن جنوب فرنسا المعروف تقليدياً أنه أكثر المناطق اكتظاظاً بالكنائس في العالم تبدلت فيه الصورة وأصبح الجنوب يعج بالمساجد الاسلامية ، بل ، يفوق الكنائس .

إذاً ، لم يكن الرد الفرنسي يصعب تفسيره منطقياً ، لكن ما يصعب هضمه التحول الدراماتيكي لأوروبا التى باتت تعي جيداً بأن القومية وحدها وحرية الاعتقاد سيجلبان إليها كارثة إن استمرت الحياة تسير كما هي الآن ، ولم يعد خفي أن الأحزاب بدأت تنظر إلى الدور السياسي التى لعبته الكنسية المسحية في الولايات المتحدة الأمريكية ، اليمين الانجيلي ، منذ سبعينات القرن الماضي مارس دوراً بالغ التطور ، حيث ، سيطر على الحزب الجمهوري وكان ومازال مسئولاً عن تحديد رئيس الجمهورية ، منذ جيمي كارتر 1976 م ، وهكذا ، تُناضل الأحزاب المسحية ذات الخلفية الكاثوليكية بلعب درواً فعالاً في السياسة الأوروبية كانت قد بدأت التجربة الأولى في بلجيكا وسرعان ما انتشرت في كافة ارجاء اوروبا ولعل النموذج الأبرز للأحزاب المسيحية هو الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا .

المسيحية في اوروبا لها تأثير كبير على الفن والفلسفة والثقافة والقانون ورغم الانشقاق البروتستانتي ، إلا أن ، اوروبا تتوحد طالما هناك ما يهدد المسيحية ، كدين رئيسي لأوروبا ، وهذا على الأقل حدث في التاريخ عندما اقام المسلمين دولة الاندلس بات الهاجس والغاية الأهم ، استردادها ، بكل الطرق الوسائل ، والأمر الأخر ، عندما بات يهود اوروبا يشكلون خطر اقتصادي ويتحكمون بالبنوك والتجارة والزراعة بالإضافة إلى تأثير بعض المفكرين من أصل الديانة اليهودية على المناخ العام الأوروبي ، تحولوا إلى مصدر قلق ، تطلب ذلك ، تحرك سريع لإعادة التوازن ومعالجة الخطر المحدق بالقارة ، فكانت ابسط الحلول أن بادروا بتغيبهم وملاحقتهم وقتلهم عندما استشعر الأوروبيين بتهديد مباشر ، السؤال هل حان الوقت كما هو ظاهر لأوروبا أن تعود بقرارها السياسي والاجتماعي وجميع المنظومات التى تتعلق بالإنسان إلى الكنسية ، أم هي ، قد استجابت منذ زمن ، لكنها ، تنتظر إعلان عن ذلك لاحقاً .

اخر الأخبار