دنيس الحيفاوية تنقذ التراث من براثن إسرائيل

تابعنا على:   19:06 2014-12-20

في العادة تبدأ الحكايات من المشاهد الواسعة، والأزمان البعيدة، ولأن فيلم «الحكواتية» هو فيلم عن الحكاية، سيبدو منطقياً أن تبدأ الدقائق الأولى من الفيلم باللقطات الواسعة، السماء، الطيور، مشاهد للقدس، ثم يهود يمرحون في البحر، وعلامات إرشادية باللغة العبرية، قبل أن نرى الليل يخيم على المدينة.

الأمر لا يخلو من الرسائل المباشرة والواضــحة التي تحملها هــذه اللقطات، فالــمدرسة التعبيرية فـــي الفن التشكيلي ليست حكراً علـــى الرســـم فقط، حيث إن تشكيل الصـــورة عبـــر وسيط فيلمي، قد يلجأ إلى الرمزية المقصودة لنفسها.

أكثر من عشر دقائق تمر قبل التعرف في شكل مباشر إلى دنيس جبران أسعد، حكواتية من حيفا، والتي تظهر في الدقائق الثلاث الأولى من الفيلم وهي تلعب دورها الذي اختارته، تحكي حكاية وسط جمهور.

دنيس الحكواتية الحيفاوية تعلمت فن الحكي في مرحلتين، الأولى وهي صغيرة، بينما والدها يحكي لها، والثانية وهي تراعي ابنها الذي أُصيب بشلل دماغي نتيجة خطأ طبي وهو صغير. تحكي دنيس لتتواصل مع ابنها، ومنذ عشر سنوات تحترف فن الحكي، لكن الحكاية الحقيقية ليست أن تحكي فقط.

فيلم «الحكواتية» الذي يستحوذ بثلاثة وتسعين دقيقة زمناً للمشاهدة قد حصل أيضاً على جائزة الفيلم الطويل في مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية في دورته العاشرة، والتي انتهت قبل أيام.

والفيلم على عكس المتوقع لا يقدم حكايات، الحكايات جميعها مقطوعة، فقد تعمد المخرج محمد مصطفى الصواف ألا يستكمل أية حكاية، مكتفياً بأن يخلق حالة الشغف ويتركها مبتورة، دافعاً المشاهد إلى أن يسعى لاستكمال حكاياته بنفسه، وهذا ما نرى دنيس تفعله خلال الفيلم.

تجوال

لا يقدم الفيلم الحكاية المعتادة لحكواتية معنية بحكي التراث الفلسطيني، إنما يقدم حالة مختلفة، فدنيس تجوب المدن والقرى الفلسطينية تجمع الحكايات من كبار السن و «الختيارات»، ثم توزع حكاياتها على الأطفال، وهي تعلمهم فن الحكي، تعطيهم مما تجمع، تحكي لهم عن حيفا، وعن البحر ولا تكتمل أبداً أية حكاية. ويُصاحب الفيلم دنيس في رحلاتها عبر المدن والقرى الفلسطينية، وهي تلتقي بالسيدات كبيرات السن، أو تمر بأطفال تعلمهم الحكايات.

والجهد يبدو واضحاً في التصوير، فالمشهد الواحد ثري بزوايا متعددة للكاميرا، حيث إن المشاهد حين يكتشف في نهاية الأمر أن طاقم التصوير مكون من مدير تصوير واحد هو فريدريكو بيجا يصاب بالدهشة. فالحال أن تصوير هذا الفيلم في حد ذاته يمثل صعوبة كبيرة، فمثلاً حين نشاهد لقطات دنيس وهي في سيارتها، أو برفقة أحد، سنلاحظ أنها لقطات تم تصويرها من أربع زوايا من الداخل والخارج، واليسار والأمام، ما يُشير إلى زمن طويل في صناعة الفيلم، أو كلفة عالية، إذ يقتضي الأمر وضع ما لا يقلّ عن ثلاث كاميرات في زوايا مختلفة، مع الإشارة إلى أن كل زاوية للتصوير لا تُشير إلى وجود كاميرا أخرى.

وعلى صعوبة المشاهد المصورة داخل السيارات، فإن المخرج لم يلجأ إلى تقليلها، بل حرص الصواف على مرافقة دنيس في رحلاتها من دون تدخل، حتى أن دنيس وهي في رحلتها إلى بلدة «قيسارة» ظلت تتناقش مع السيدة اليهودية التي تريد أن تأخذ منها رسوماً للزيارة، لأن إسرائيل التي هجّرت أهل هذه المدينة حولتها إلى مزار سياحي يزار مقابل بدل، بمعنى أن دنيس ابنة البلدة لا تستطيع زيارة بلدتها وقبر والدها من دون أن تدفع الرسوم كأي سائح.

وتذكر الحكواتية دنيس مبرراتها لهذه الرحلات المتعددة لجمع الحكايات، مؤكدة أنها إنما تحاول الحفاظ على التراث الفلسطيني كيلا يسرقه الإسرائيليون.

تتنقل دنيس بين رام الله وجنين والقدس وقلندية، حيث نرى لافتة مكتوباً عليها بالعربية والعبرية أن هذه المنطقة تخص فلسطينيين وأن دخول الإسرائيليين يمثل خطورة.

وفي طريقها، ترصد الحكواتية الـــتـجـاوزات الــتــي يــمــارسهـا الإسرائيليون في حق الفلسطينيين المقيمين في القدس والخليل وباقي المدن، فهم يرمون الجميع بالحجارة، حتى بنى كل فلسطيني حاجزاً عازلاً ليقي نفسه وعائلته من الأذى، ما حوّل كثيراً من البيوت والمحال الفلسطينية الى ما يشبه السجون.

تحدي الزمن

ويمثل زمن الفيلم الطويل تحدياً أمام مخرجه الذي لجأ إلى قطع الحكايات كعامل تشويقي، ولقطات لأطفال يلعبون كشكل من التهدئة خلال الرحلات المتعددة لدنيس، وعلى رغم أن المخرج قد نجح في إيجاد جو تشويقي، إلا أن الفيلم كان يمكن أن يكون أقصر من ذلك.

واللافت أن طاقم عمل الفيلم حرص على أن يصاحب دنيس في تفاصيل زياراتها وهي تجمع الحكايات، ولم يكتف بمدينة أو اثنتين كنموذج للفكرة، بل رافقها في أكثر من خمس بلدات (الخليل، قيسارية – دير جرير - جنين – الخان الأحمر - حيفا وعمان)، وهو ما يكشف عن جهد كبير مبذول خلال التصوير، وأيضاً خلال المونتاج الذي قام به حسن مشهرواي. أما ذروة الفيلم ففي الدقيقة 40 تقريباً حين تزور الحكواتية بلدة «دير جرير» لتلتقي هناك السيدة أم عودة إحدى السيدات كبيرات السن التي تلتقي بهن في رحلاتها وتحكي أم عودة حكاياتها، وتطلب من دنيس أن تعيد حكيها، ليكون مشهد النهاية بعد ذلك في «الحكواتية» في عمان حيث تحكي حكاية أم عودة.

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار