بيدها تجدع إسرائيل أنفها

تابعنا على:   09:35 2014-11-28

عيسى الشعيبي

لأنها قامت بقوة الحديد والنار، واغتصبت حقوق الغير، واعتمدت على حد سيفها لضمان بقائها واستمرار وجودها، فقد ظلت إسرائيل تواجه سلسلة طويلة من الأزمات متفاوتة الحدة؛ ليس فقط مع الشعب الفلسطيني الذي حاولت نفيه وسلب أرضه وتشريده وإنكاره، وإنما أيضاً مع المحيط العربي الذي شنت عليه عدة حروب عدوانية توسعية.
صحيح أن إسرائيل نجحت في إملاء نفسها، بعد أن نجحت عسكرياً واقتصادياً بصورة لافتة، وباتت قوة إقليمية مرهوبة الجانب، إلا أن ذلك لم يحقق لها الأمان، ولم يمنحها الثقة باستمرارية وجودها، رغم حصولها على بعض الاعترافات والتنازلات الفلسطينية والعربية، وتضاؤل مخاطر التهديدات الخارجية لها، ناهيك عن حصولها على دعم أميركي لا حدود له.
ومع أن هذه الدولة المتفوقة على جوارها العربي بصورة حاسمة، بقيت غير قادرة على حل مشكلاتها العميقة مع الفلسطينيين والعرب، إلا أنها استطاعت أن تتعايش مع كل معضلاتها هذه، وأن تكيّف نفسها مع واقع إقليمي واصلت النظر إليه، رغم انهياراته المدوية، على أنه عدو متربص بها، وذلك استناداً إلى قوة عسكرية ذاتية متعاظمة، وإلى رعاية غربية وإسناد اميركي لم تحظ به أي دولة أخرى على الإطلاق.
ويبدو أن جملة الأوضاع الإقليمية والدولية المواتية لها، فضلاً عن امتلائها بحس القوة، وقدرتها على التملص من كل مساءلة، حتى لا نقول عقوبة، إزاء عربداتها الحربية وانتهاكاتها الفظة لقواعد القانون الدولي، قد أخذت تغير من صورة إسرائيل عن نفسها أمام مرآة ذاتها؛ لتستبدل في غمرة ذلك صورة الضحية التي طابت لها، بمشهد الدولة المتعجرفة، أو قل المارقة، التي لا تحسب حسابا لأي وجهة نظر سلبية تجاهها، حتى وإن صدرت عن أوثق حلفائها.
هناك عدد من الأمثلة التي لا تحصى، على استهانة إسرائيل بكل ما تواجهه من تحديات خارجية، كانت إذا لم تستطع حلها بالقوة، تلجأ إلى حلها بمزيد من فائض ما تحوز عليه من قوة. ولعل ما شهده تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي الطويل من حروب توسعية، وما يحفل به نزاعها مع الفلسطينيين من شواهد على ازدرائها لأي تسوية عادلة، خير دليل على أن إسرائيل سادرة في غيها، طالما أنها آمنة على ذاتها، وليس هناك من يقعقع بالشنان لها.
غير أن مسار العربدة والغرور هذا، الذي دارت فيه إسرائيل دورة كاملة، أصابها بعماء البصيرة، وراح يرتد عليها أكثر فأكثر في السنوات القليلة الماضية. إذ أخذت روايتها عن كونها الضحية التاريخية في التآكل؛ ومزاعمها عن وصفها بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط في التهافت؛ وادعاءاتها بالتوق إلى السلام والتعايش في الانكشاف الكامل؛ وفوق ذلك كله تجلت صورتها كدولة عنصرية تتنقب دروب جنوب أفريقيا السابقة خطوة بخطوة.
ولعل قانون الدولة اليهودية الذي تعتزم إسرائيل إصداره، وما تقدمه من مسوغات عنصرية كريهة لتبرير اعتماده كأساس لهويتها القومية، هو أحد أكثر الأمثلة وضوحاً على انغلاق هذه الذهنية المريضة على نفسها، وأشدها بلاغة في تظهير الصورة الحقيقية لها أمام حلفائها قبل أعدائها؛ كدولة دينية متعصبة، مكافئة لما أخذ يسود في المنطقة من دول افتراضية ترفع الرايات السوداء.
ومع أن هذا القانون الذي لا يقدم ولا يؤخر في ماهية الدولة العبرية ما يزال بين أخذ ورد، وموضع جدال واسع داخلي، إلا أنه يقدم خلاصة كشف حساب طويل عن التبدلات العميقة الجارية داخل العقلية الإسرائيلية التي تزداد انجرافاً نحو التعصب الديني والعنصرية المقيتة، وهو يأتي متوجا لجملة قوانين تمييزية متوالية، لمجتمع يعيش في عالم خاص به؛ يغلق الأبواب على نفسه وينقطع عما حوله، متوهما أنه يستطيع فعل ما يشاء في "الفيتو" المسلح.
بكلام آخر، فالمرجح أن إصدار هذا القانون اللائق فقط بدولة ظلامية، سوف يجعل إسرائيل كذاك الذي يجدع أنفه بيده، ليشوه صورته المشوهة أكثر فأكثر، وينزل بسمعته السيئة إلى الحضيض أعمق فأعمق. وربما لن تجد إسرائيل بعد اليوم عدواً أشد مضاءً من مجانينها الذين ملّ العالم، بعد غض بصر، من عنجهيتهم، وبات يضيق اليوم ذرعا بهرطقاتهم.

عن الغد الاردنية

اخر الأخبار