أردوغان يواجه النظام المصري

تابعنا على:   12:12 2014-09-30

مصطفى اللباد

مثلت كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي جرت قبل أيام قليلة، منعطفاً حاداً في العلاقات المصرية - التركية المتردية بالفعل منذ إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وممثلها في قصر الرئاسة العام الماضي. كان غريباً أن يخصص الرئيس التركي الثقل الأساسي لخطابه للنيل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووصفه الانتفاضة الشعبية المصرية الثانية في حزيران 2013 باعتبارها «انقلاباً عسكرياً»، متجاهلاً عشرات الملايين من المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين لإطاحة حليفته جماعة «الإخوان المسلمين». ذهب الرئيس المصري إلى نيويورك ضمن حملة سياسية - إعلامية منسقة لنيل اعتراف المجتمع الدولي بشرعية نظامه، ونجح بوضوح في الحصول عليه. وتجلى ذلك الاعتراف في اللقاء مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، الراغب بشدة في رص اصطفاف عربي في تحالفه بمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية». أما أردوغان، فقد انحصر هدفه في الجمعية العامة الأخيرة للأمم المتحدة - على ما يبدو - في التنديد بحملة الرئيس المصري، ناقلاً أسلوبه الشخصي التهجمي إلى المحفل الأهم في السياسة الدولية وعاكساً في الوقت نفسه وضعية تركيا الإقليمية الجديدة.
عكست كلمة أردوغان أهمية العامل الشخصي في مكونات صناعة القرار التركي وبدرجة تفوق أي زعيم تركي آخر، حيث جرت العادة أن يكون رئيس الوزراء هو من يلقي كلمة تركيا في هذا المحفل وليس رئيس الجمهورية التركية البرلمانية الطابع، وهو ما فعله أردوغان شخصياً في الدورات السابقة عندما كان رئيساً للوزراء. الآن، بعد انتخابه رئيساً للجمهورية بنصف أصوات الأتراك، يسعى أردوغان إلى تطويع مواد الدستور وتأويلها لمصلحة موقع الرئيس. ثانياً، ينقل أردوغان تخوفاته الداخلية من تحرك المؤسسة العسكرية التركية ضده، إلى المنبر الدولي الأهم في ربط واضح بين ما جرى في مصر وبين تخوفاته الشخصية. ويظهر ذلك في عملية التلاعب بالصور عبر برنامج الفوتوشوب، فظهرت وسائل إعلام تركية موالية له بصوره متحدثاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاعة مكتظة بالمستمعين، فيما كانت القاعة شبه خاوية في الواقع. ولكن العامل الشخصي - على أهميته في صنع القرار التركي الأردوغاني - لا ينفي حسابات سياسية أيضاً في اتخاذ هذا الموقف. ثالثاً، طمح أردوغان في قيادة المنطقة وتمديد حضور تركيا الإقليمي مع صعود جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في بدايات «الربيع العربي» في تونس ومصر وليبيا إلى جوار «حماس» في غزة، وما بدا لتركيا أن ذات الجماعة في سوريا ستستطيع إسقاط النظام هناك والحلول محله في مقاعد السلطة. ومع إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وهي الجماعة الأم، فقد تبددت أحلام أردوغان في القيادة الإقليمية. قد يكون عامل الانتقام والمرارة حاضراً في حسابات أردوغان - وهو أمر يبدو راجحاً - ولكن حسابات العائد/التكلفة الأردوغانية لا يمكن استبعادها من التحليل. رابعاً، سيعني الاعتراف بالنظام الجديد في مصر فقدان حكومة حزب «العدالة والتنمية» لصدقيتها أمام تحالفاتها الإقليمية، وبالتالي موقف أردوغان الحالي هو أيضاً محاولة لتشكيل «مادة لاصقة» لهذا التحالف المتضعضع. خامساً والأهم، أن السابقة التاريخية في السنوات العشر الماضية تقول إن حكومة حزب «العدالة والتنمية» انتزعت أدواراً مصرية تقليدية بسهولة نسبية وبأثمان قليلة للغاية؛ سواء في المفاوضات السورية - الإسرائيلية أو في تسوية الحرب الأهلية في الصومال، أو حروب الرأي العام المحدودة التكلفة التي خاضتها تركيا وربحت أرباحاً معنوية كبيرة خصماً من رصيد مصر. المثال على ذلك «واقعة دافوس» عام 2009، التي انسحب فيها أردوغان خلال جلسة مع بيريز مع بقاء الأمين العام للجامعة العربية المصري عمرو موسى في الجلسة، فظهر أردوغان بطلاً شعبياً مقارنة بعمرو موسى في ظل بقاء العلاقات السياسية مع إسرائيل واتفاقات التعاون العسكري والتجاري على حالها. ثم، بالتسلسل، جاءت حادثة «أسطول الحرية» عام 2010 لكسر الحصار الإسرائيلي على غزة، الذي شارك فيه نظام حسني مبارك مع إسرائيل، فصعدت شعبية أردوغان في المنطقة أيضاً على حساب المواقف المصرية، مع ملاحظة استشهاد تسعة مواطنين أتراك في مقابل عشرات الألوف من الشهداء المصريين في الحروب السابقة مع إسرائيل. على هذا الأساس تكون حسابات أردوغان دائرة وفقاً لاعتبار أن العائد من الهجوم على النظام المصري الجديد أعلى بكثير من تكاليفه، نظراً للعوامل الخمسة المذكورة أعلاه.
في سياق الخيارات المصرية بمواجهة أردوغان يجب دوماً الفصل بين الأواصر التاريخية والثقافية التي تجمع بين الشعبين التركي والمصري، وجعلها فوق الخلاف السياسي بين النظامين الحاكمين في القاهرة وأنقره؛ فالحكام زائلون والشعوب باقية. أما في طريقة التعاطي مع مواقف أردوغان، فما زالت المواقف المصرية دون مستوى ما تستطيع أن تفعل في الواقع. يمكن للقاهرة - من بين ما يمكنها أن تفعله - مراجعة ملف العلاقات مع تركيا بما يتسق مع الحقوق والالتزامات الدولية وأواصر الصداقة بين الشعبين التركي والمصري، فتمنع عن عائلة أردوغان شخصياً وليس كل رجال الأعمال الأتراك، ما تتحصل عليه من امتيازات وفوائد على حساب الشعب المصري! تسمح اتفاقية «الرورو» الموقعة بين القاهرة وأنقرة العام 2012 للسفن التركية بالتهرب من رسوم عائدات قناة السويس، عبر رسو السفن التركية القادمة من الموانئ التركية إلى الموانئ المصرية، ومن ثم نقل البضائع براً إلى البحر الأحمر، ما يفقد مصر مليار دولار سنوياً عائدات مرور ضائعة لقناة السويس. والمستفيد الأكبر من هذا الاتفاق على الجانب التركي هي شركات الشحن المملوكة لأحمد براق أردوغان ابن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
تصدّر تركيا ما قيمته عشرون مليار دولار سنوياً إلى دول الخليج العربية، ذهبت تقليدياً إلى هناك عبر الأراضي السورية. ومع قطع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وتردي علاقات أنقرة وبغداد، لم يعد أمام الصادرات التركية سوى طريقين للوصول إلى الخليج هما إسرائيل/الأردن/ البحر الأحمر أو مصر/البحر الأحمر، ومن وقتها وحتى الآن تستعمل تركيا الطريقين وتدفع ثمناً كبيراً لإسرائيل لقاء مرور البضائع التركية. كانت كل سفينة تركية ستدفع في العادة أربعمئة ألف دولار لعبور قناة السويس محملة بالسلع ومئتي ألف للعودة فارغة، ما يعني ستمئة ألف دولار لكل سفينة. بينما تجعل «اتفاقية الرورو» السفن التركية تدفع خمسة عشر ألف دولار فقط للسفينة في الذهاب والعودة، مع استعمال الوقود المصري المدعوم من خزينة الدولة وشبكة الطرق المصرية مجاناً، ما يعني أن السفن المملوكة لعائلة أردوغان تعبر مصر مجاناً تقريباً، ما يجعل الخسائر المصرية والأرباح لآل أردوغان مليار دولار سنوياً. وفي اللحظة التي كتبت فيها هذه السطور، ما زالت سفن الشحن البحري المملوكة لأحمد براق أردوغان تستعمل «اتفاقية الرورو»، لمراكمة أرباحها على حساب قناة السويس التي بناها المصريون بعرقهم ودمهم وأرواحهم. من الطبيعي لأي نظام يتشدق بالديموقراطية أن يتمتع بالشفافية وأن يفصل بين العام والخاص، ويمنع صانع القرار من الاستفادة بقرارات لمصلحته الشخصية كما هي الحال مع المصالح التجارية لأحمد براق أردوغان والسياسات الإقليمية لرجب طيب أردوغان، ولكن تلك قضية الشعب التركي وليس أي أحد آخر. تغيرت المنابر على أردوغان من ميادين تركيا إلى دافوس إلى الأمم المتحدة، وظلت طريقته التهجمية واحدة. لا يعكس ذلك ثباتاً على المبدأ بالضرورة، بل فشلاً في استيعاب المتغيرات الإقليمية التي جعلته رابحاً في بدايات «الربيع العربي»، وخاسراً بوضوح الآن بعد إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وانطلاق الحرب على «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا.
الأجدى بـ«مصر الجديدة» أن تثبت وجودها الإقليمي في مواجهة أردوغان ومنعه من الحصول على امتيازات مجانية أو إحراز نقاط سهلة عليها كما جرى خلال السنوات العشر الماضية. وربما كانت مراجعة «اتفاقية الرورو»، بداية العد العكسي للانطلاقة المصرية المأمولة؛ فهذا ما يمكنه التأثير على الحسابات السياسية للرئيس التركي، وليس الرد بالهجوم الإعلامي المضاد أو البيانات الروتينية لوزارة الخارجية المصرية.

عن السفير اللبنانية

اخر الأخبار