سؤالٌ مؤجّلٌ: سيّدى الرّئيس!

تابعنا على:   11:53 2014-09-20

انور الهواري

قطعاً، القسوةُ الّتى عومل بها الجنزورى، لدى خروجه من رئاسة الوزارة 1999م، كانت جُزءاً من حرب خفيّة مُستقبليّة أكبر على رئاسة الجمهورية نفسها، إمّا الجنزورى، وإمّا التوريث. انشغل مُهندسو الإقليم من القوى العُظمى المُسيطرة علينا، بهذا الملفّ الحسّاس فى هذا البلد المُهمّ لهم، بعدما أفلت الرّئيسُ الأسبق من محاولة اغتيال مؤكدّة فى أديس أبابا 1995م، وهى الحادثة التى جدّدت شرعية الرجل فى الداخل، ولكنّها فتحت التفكير حول خلافته عند حلفائه فى الخارج، خاصّةً الأمريكان.

كان الخيارُ محصوراً فى وجوه مدنيّة، فى أجواء نأت فيها المؤسّسة العسكرية بنفسها عن السياسة، وحتّى بعد ثورة 25 يناير، كان خيارُها تسليم السلطة لمن ينتخبُه الشعب، وقد أوفت المؤسسةُ بوعدها، ونقلت مقاليد الحُكم إلى رئيس مُنتخب فى يونيو 2012م. الرئيسُ المُنتخبُ وتنظيماتٌ دينيةٌ مُتحالفةٌ معه أداروا انقلاباً تدميرياً مُمنهجاً ومُتسرّعاً، على أركان الدولة والمجتمع، من داخل قلاع الدولة نفسها. لم تكُن لدينا منابع مدنيّة بديلة قادرة على تخريج الرؤساء. سقط انقلابُ الإخوان، تنافس على الرئاسة مُرشحان: عسكرى ومدنى، عادت مصرُ إلى تراثها القديم، دولة مدنية، مع رئيس قادم من النبع العسكرى، ليقود خُطى مصر 2014م - 2018م، وهى من أكثر فترات تاريخنا صعوبةً وحرجاً، مرافق عامّة مُهترئة فى الداخل، وجوار إقليمى سقطت فيه فكرةُ الدولة، ونشطت فيه تنظيماتٌ دينية وحشيةُ الطباع.

«الإنسانُ مدنىٌ بالطبع»، كُنتُ أحسبُها من قول ابن خلدون، ولكنّه، فى الكتاب الأول، من الباب الأول، ينسبُها إلى الحُكماء، فهى حقيقةٌ قديمةٌ. الإنسانُ مدنىٌّ بالطبع، والدولةُ مدنيّةٌ بالطبع، والسياسةُ مدنيّةٌ بالطبع، ومداولات الحُكم وإدارة الشعوب شأنٌ مدنىٌّ بالطبع. وفى اللحظات الحرجة من تاريخ الأمم، وحين تسقط طبقاتُ الحكم المدنى وتعجز عن درء الأخطار المُحيطة بالدولة والمجتمع، تتقدم قياداتٌ من الجُند، حتّى يزول ذاك الخطر. فهى عارضٌ مؤقّت يقدّر بقدر الضرورة التى أملتها الداهماتُ من الظروف، رُبّما لهذا شاع مُصطلح «مرشح الضرورة»، ثم «رئيس الضرورة». وقد تكرّرت هذه الظواهرُ فى تاريخنا، فقد كانت قيادةُ الدولتين الأيوبية ثم المملوكية، من قادة الجُند، لمواجهة خطرين إقليميين: هجمةُ الصليبيين القادمين من غرب أوروبّا، ثم هجمة المغول القادمين من سهوب آسيا. وقبل عام، كانت هجمةُ التنظيمات الدينية القادمة من أضابير الزمن.

عندنا سؤالٌ أزلىٌّ: من أين يأتى الرّؤساءُ. نصوصُ الدستور تبقى نصوصاً، ويبقى الواقعُ الاجتماعى والسياسى هو العُنصر الفاصل فى الإجابة. وسوف يبقى السؤالُ بغير جواب يتمشّى مع روح هذا العصر، ما لم نُبادر لخلق طبقة حُكم مدنىّ، ولخلق مجتمع سياسى تنافُسىّ، ليكونُ شأنُ الحُكم شأناً بشرياً من اختصاص عموم النّاس وليس من امتياز فئة مخصوصة منهم.

فى مذكراته، يحكى الدكتور الجنزورى، عن بعض ما تعلّمه فى أمريكا بعيداً عن التخصص العلمى الدقيق، يقول: تبيّن لى أهميّة العلم والعُلماء، وقدسية البحث العلمى، وكرامة المواطن وحمايته وحصوله على كل حقوقه، وحرصه على تأدية واجباته بصدق وأمانة. وفى مجال العمل السياسى، تعلّمت كيف يفكرون، كيف تُدار الأحزاب، كيف يحصل المواطن على حقّه دون اللجوء إلى القضاء.

فى أمريكا، وعقب اغتيال الرئيس جون كينيدى، الرجل المحبوب فى نوفمبر 1963م، تولّى الرئاسة نائبه المُنتخب ليندون جونسون، وقد شاهد الدكتور الجنزورى على التلفزيون هذه الواقعة: خرج الرئيس الجديد ليتكلّم إلى العالم فى أوّل مؤتمر صحفى، تقدّم منه شابٌّ أمريكىٌّ، وقال له: أنت رجلٌ قذرٌ،،،! الدكتور الجنزورى لم يصدّق أذناه مما سمع، فهو لا يتصوّر أبداً، أن يُخاطب رئيسُ الجمهوريّة بمثل هذه الشتائم، وبهذا الأسلوب غير الأخلاقى. لكن الذى أذهل الدكتور الجنزورى، هو ردُّ الرّئيس الأمريكى نفسه، ليندون جونسون، ابتسم للشابّ، ثمّ قال له: قد تكون على حقّ، فأنا أعملُ منذ فترة طويلة، فى مهنة قذرة، وهى مهنة السياسة. انتهى الاقتباس من الدكتور الجنزورى.

هذه الطبقةُ السياسيةُ- بكل قذارتها- هى من قادت استقلال أمريكا، وهى من جعلتها موطن الحلم الإنسانى، وهى من جعلتها أعظم إمبراطوريات التاريخ، بعد الإمبراطورية الرومانية.

هندسةُ منابع الرّئاسة عندنا، سوف تبقى أكبر وأخطر ملفاتنا المفتوحة، ونحنُ نؤسّسُ لجمهورية جديدة، تتجاوز الأشخاص إلى المؤسسات، وتتجاوز المؤسسات إلى الوطن، وتتجاوز المؤقت إلى الدائم، ولا دائم إلا وجه الله.

عن المصري اليوم

اخر الأخبار