يهودي عربي-بربري

تابعنا على:   10:21 2014-08-29

د.أحمد جميل عزم

جمعتني رحلة علمية، قبل سنوات، إلى المغرب مع باحثين أوروبيين. كان اسم عائلة أحدهم عربيّاً، واسمه الأول إنجليزيا، وقيل هو أكاديمي فلسطيني معروف. عندما رأيته، أدركت أنّه شكلاً ومنطقاً لا يمكن أن يكون عربيا.
منذ سنوات غير قليلة، تكررت النقاشات مع مدرّسة بريطانية في جامعة قضيت فيها أشهرا. وفي يوم، طلبت رؤيتي وبكت بحرقة، وسألتُ عن السبب، فقالت إنها كذبت وأخفت هويتها عني.
عُرض قبل أيام في المؤتمر العالمي للدراسات الشرق أوسطية في أنقرة، فيلم \"من تنغير إلى القدس: أصداء الملاح\". ما خطر ببالي وأنا أشاهده مختلفٌ عما قرأته لاحقاً في الإعلام. كاتب فلسطيني كَتَب \"ما كان للفيلم أن يحظى بهذا الدعم والإسناد لولا أنه يخدم الحركة الصهيونية\".
في مطلع الفيلم الذي أعده وأخرجه كمال هشكار، وهو أول أفلامه، بيوت فارغة ودكاكين مأهولة والمكان قرية تنغير (ليست مدينة طنجة)، أمّا \"الملاح\" فهي الأحياء التي قطنها يهود هذه القرية في جِبال الأطلس.
مُدرّستي بكت لأنها أخفت يهوديتها، ولكنها شددت أن لا علاقة لها بإسرائيل. وذلك الباحث وهو يستأجر سيارة للسفر في الصحراء للبحث عن بيت جده، قال إن القصة بدأت نحو القرن الخامس عشر، بهجرة عائلته اليهودية من الأندلس إلى فلسطين، وتحديداً صفد، حتى نهايات القرن التاسع عشر، عندما ازدهرت تجارة العائلة مع إنجلترا والمغرب، فهاجر الجد للمغرب وتزوج هناك، قبل أن يهاجر ثانية إلى إنجلترا في ثلاثينيات القرن العشرين. ويقول إذن أنا فلسطيني، وفرع من العائلة اعتنق الإسلام وما يزال \"هناك\".  
يروي الفيلم قصص يهود من البربر (الأمازيغ)، مُسقطا من حسابه أي مشاهد لمعاناة الفلسطينيين ولفلسطين، وهذا سبب إضافي لاتهامه بالتطبيع. ولكنه يوثق كيف عاش هؤلاء اليهود مع جيرانهم المسلمين العرب والبربر، وكيف ولماذا هاجروا قبل نصف قرن، وأحوالهم الآن. وهشكار نفسه ابن عامل من تنغير هاجر إلى فرنسا للعمل العام 1968.
في الفيلم مسنة مغربية الأصل يدق عليها المخرج الباب من دون سابق إنذار، ويسألها عن مغربية أخرى، ويقول لها أنا \"مسلم بربري\" من المغرب. وتبتهج المرأة، وتجد نفسها تورطت لتدله على من سأل عنها. خرجت للشارع مع الشاب بملابس المنزل (المسروق غالبا من عائلة فلسطينية)، وتتحدث عن ذكرياتها الجميلة في المغرب.
تحدثوا عن بكائهم لحظة خروجهم، وبكاء جيرانهم غير اليهود، وبعضهم ادّعى الهجرة لبلد آخر غير فلسطين. وفي الفيلم مُغنٍ إسرائيلي شهير اسمه شلومو بار يغني بالعبرية، بألحان مغاربية بربرية وإيقاعات شرقية. ويغني بالعبرية للمغاربة اليهود \"في قريتنا في قلب الأطلس، كنا أطفالا في الخامسة، وضعنا إكليل ورد في قرية اسمها تودرا... كنا حبيبي\". ويكاد الحضور يبكي.
هي خلطة كاملة إذن تسمح باتهام الفيلم بأنّه \"يؤنسن\" الصهاينة (يجعلهم أناساً عاديين وليسوا غزاة محتلين)، ويتجاهل الكارثة الفلسطينية.
في الفيلم سيدة تقوم بتسخين طبلة على لهب الغاز، وتتحدث كيف احتجوا بالأغنيات على رئيس وزراء إسرائيل السابق بن غوريون، \"عاللومي اللومي ويا حلوة ويا مرسومة.. يا اللي جابوني من غادي.. أعطوني عيشة ولادي يا ردوني لبلادي\". ويسألها المخرج من أين أنت؟ فتقول: مغربية، ويسأل ابنتها التي زارت المغرب، فتقول: إسرائيلية.
المغرب دولة لا تنزع جنسية من يهاجر منها، حتى اليهود الذين هاجروا لفلسطين المحتلة. والفيلم، يمكن تحويله إلى فقرات في بحث، ووثيقة تثبت أنّ أحداً لم يجبر أي يهودي مغربي على الهجرة، بعكس الرواية الصهيونية عن التهجير القسري، وأنّهم باعوا بيوتهم ودكاكينهم قبل المغادرة. ولكن في الفيلم أنّ من المهاجرين من هاجر معتقدا أن هذا واجب ديني، وأن صهاينة أثاروا الرعب لدى يهود المغرب، وحذروهم من البقاء وحدهم.
يخبرني يهودي فرنسي، مصري الأصل، يرفض فكرة الدولة اليهودية ويرفض الحياة فيها، أن أمه التي هاجرت في الخمسينيات إلى فرنسا، لا تفارق منذ أن ظهرت الفضائيات المسلسلات والأفلام العربية.
الهوية أمر معقّد للغاية، والصهيونية تقوم على تسييس الدين وتحويله إلى قومية، وهذا يخل ويضرب أسس العقل والعدل والحياة الإنسانية؛ سببت دماراً للفلسطينيين وشجعت نشر الأصوليات المنغلقة العنصرية، وحتى جزء من اليهود يدرك أنّ الصهيونية ضربت إنسانيتهم وأبكتهم.

اخر الأخبار