سميح منتصب القامة يمشي

تابعنا على:   17:24 2014-08-22

عمر حلمي الغول

كنت الملم احزاني الخاصة في ذكرى رحيل والدتي قبل اعوام ثلاثة خلت، وانا شاخص العينين نحو شاشات الفضائيات لالقاء نظرات الالم والوداع على اشلاء الاطفال والنساء والشيوخ، التي تملأ ارجاء المكان والفضاء في مدن وقرى قطاع غزة، الذين استباحتهم الطائرات والزوارق الحربية والدبابات الاسرائيلية، ولاعلن سخطي ورفضي لجرائم الحرب الصهيونية، ولعار الصمت العربي والاسلامي والدولي، ولاتلو عبر زاويتي اليومية بيان الانتصار للمقاومة والسلام والدعوة لوقف نزيف الموت ضد شعبي في آن.

بين الدهشة الاولى وانتظار الخبر جاء الاعلان عن رحيل سيد الابجدية، شاعر الشعب والثورة والقامة المنتصبة، الرمز سميح القاسم، توأم محمود ونده في مدرسة الشعر الوطنية والقومية والانسانية.

رحل سميح القاسم، إبن الرامة الجليلية عن خمسٍ وسبعين عاما، التي إحتضنت قبل يومين جثمانه الطاهر بعد رحلة عطاء مجيدة وغنية، أثمرت حوالي ثمانين عملا من دواوين الشعر والمسرحيات والروايات القصيرة والعشرات والمئات من المقالات السياسية والادبية.

كان الاديب والشاعر العربي الكبير سميح، مقاتلا شجاعا إسوة بكل ادباء وشعراء وفناني شعبنا في الجليل والمثلث والنقب وفي الاراضي المحتلة عام 1967وفي الشتات والمهاجر، وان تميز كما اقرانه من المبدعين الرموز المتقدمين صفوف الدفاع عن الهوية والثقافة الوطنية. لا بل لعل لسميح القاسم ميزة عن غيره من شعراء المقاومة داخل الخط الاخضر بمن فيهم الشاعر العظيم محمود درويش، كونه ينتمي لعائلة فلسطينية عربية تتبع الطائفة الدرزية، التي سعت الحركة الصهيونية قبل وبعد نشوء إسرائيل على إستقطاب شيوخها واستمالتهم للتعاون معها بهدف تمزيق وحدة الشعب والارض والهوية الوطنية، غير انه ومنذ نعومة اظفاره شب عن طوق الطائفية المقيتة، رافضاً سياسة ومخطط تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي، وانغرس في بوتقة النضال الوطني الديمقراطي، مدافعا من خلال إنتمائه لصفوف الحزب الشيوعي عن القضية والشخصية الوطنية، حاملا معول الكلمة ضاربا في حقولها المعرفية الواسعة، وان ثابر على زراعة حقل الشعر بما فاضت بها قريحته، ووسم بخصاله، لانه ابدع واعطى فحصد رمزيته ومكانته الثقافية العالية بما انتجه من قصائد حاكت واغنت مأساة ووحدة الشعب والارض والقضية والثورة والاهداف الوطنية. كما حاكى القومية العربية واحلام العرب جميعا، وانشد الانسانية وفقراءها وعمالها وفلاحيها البسطاء وكل مسحوقي الارض..

ابن الرامة العظيم كانه بموته المعلن، شاء التأكيد على رفض البقاء تحت سيف المرض الخبيث، ورفضه لمنطق المجزرة والمذبحة الاسرائيلية، فقرر مرفوع الهامة ومنتصب القامة ان يمشي قدما نحو ملاذه الاخير، ليسطر بموته ملحمة الشهادة مع اطفال وشيوخ ونساء وشباب قطاع غزة، وليشهر امام الكل الاسرائيلي صلة الدم والتاريخ والثقافة  والهوية الوطنية الواحدة والجامعة لابناء الشعب الفلسطيني  وليتلوى عليهم في بيان رحيله الاخير، ان سياسة فرق تسد، لم ولن تنجح، وستبوء بالفشل، كما فشلت سياسة سادة اسرائيل القدماء البريطانيون. وإن الفلسطينيين بتعدديتهم الدينية والطائفية والمذهبية والفكرية والمعرفية شعب واحد، لا يقبلوا القسمة على أي مبدأ يستهدف وحدتهم وتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم العربية الاسلامية. 

إستشهاد سميح القاسم، حمل مفارقة اخرى، كونه جاء مخلدا رحيل شاعر اسبانيا العظيم فدريكو غارثيا لوركا، الذي توفي في التاسع عشر من آب/ اغسطس 1936. وكأن شاعر الشعب الفلسطيني، اراد ان يعمق التواصل مع لوركا الاسباني والثقافة الانسانية. وليعلن الانتصار للدفاع عن ارادة الانسان والمعرفة الانسانية في مواجهة غلاة رأس المال الاستعماريين واتباع كل مدارس الفرقة الدينية والطائفية والتمزيق ا لوحدة شعوب الارض.

سميح الشاعر الرمز باق وخالد في سجل الشعب الذهبي، باق بدواوينه ومسرحياته ورواياته ومقالاته ودراساته بقيمه وتراثه الوطني والقومي والانساني. لم يمت، ولن يموت، وان شيع جثمانه الى مثواه الاخير امام الاف المشيعيين. باق منتصب القامة، مرفوع الهامة يمشي مع الاجيال الجديدة الى هدف الحرية والاستقلال والعودة وتقرير المصير. باق يحاضر بيننا، ويقرض الشعر في امسياتنا، ويتلو علينا اسفار الثورة والدولة والعودة عبر حصاد السنين.

وداعا يا جسد لوركا الفلسطيني، وسلاما على روحك الطاهرة ايها السميح حيث هي الان ... نم قرير العين، فاهلك وشعبك وامتك ماضون جميعا الى حيث تمنيت وتتمنى ، حيث حلمت وطمحت ،، والعابرون في تيه الارض، لن يهدأ لهم نوم على ثرى فلسطينك فلسطيننا ...

[email protected]

[email protected]    

اخر الأخبار