حرب الإبادة على قطاع غزة...المقاومة وانهيار الفرضيات الاستراتيجية والمفاهيم الحربية الإسرائيلية

تابعنا على:   23:23 2014-08-21

جورج كرزم

هز العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزة، والمقاومة الفلسطينية النوعية التي واجهته، المفهوم الراسخ لدى اليهود الإسرائيليين بأن\"دولة إسرائيل\" نشأت أساسا لحمايتهم وتوفير الأمن والرفاهية لهم؛ ما وضع المجتمع الكولونيالي أمام أزمة وجودية حقيقية.  فرغم كثافة النيران الإسرائيلية الضخمة والمروعة على مساحة جغرافية صغيرة جدا (360 كم2) هي الأكثر ازدحاما سكانيا في العالم، ورغم كون تلك المساحة \"ساقطة عسكريا\" بحسب النظريات العسكرية الكلاسيكية؛ حيث أن قطاع غزة منبسط ومكشوف تماما للطائرات الحربية وتكنولوجيا التجسس والعملاء- رغم كل ذلك، أبدع المقاتلون الفلسطينيون وطبقوا تكتيكات ونماذج شبيهة بتلك التي مورست في الحرب الصهيونية ضد المقاومة في لبنان.  ورغم المحرقة البشرية الجماعية التي تعرّض لها القطاع، إلا أن المقاومة الفلسطينيّة واصلت طيلة أكثر من ثلاثين يوما دك العمق الإسرائيليّ بالصواريخ.  وفي ذات الوقت، فشل جيش الاحتلال في استخدام عنصر المفاجئة طيلة فترة العدوان،؛ فظل يراوح في دائرة رد الفعل.

التخبط والإرباك كانا السمة الغالبة للمستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين طيلة فترة الحرب، بسبب الفشل في تحقيق أي من الأهداف المعلنة للعدوان على غزّة، واستمرار سقوط آلاف صواريخ المقاومة إلى أهداف تبعد عن غزّة أكثر من 160 كيلومترا، مثل الخضيرة وحيفا في شمال فلسطين.  ولم تسجل \"القبة الحديدية\" في تصديها  لصواريخ المقاومة الغزية سوى نسبه نجاح لم تتجاوز 20% فقط.

وكما في عدواني 2008-2009 و2012 اجترت القيادة الإسرائيلية هذه المرة أيضا ذات الأهداف من عدوانها: القضاء على \"التنظيمات الإرهابية\" وبخاصة حماس وشل قدرتها على قصف إسرائيل بالصواريخ.  وإثر مرور بضعة أيام على القصف الجوي المكثف والصدمة الإسرائيلية الفجائية من التكتيكات القتالية الأساسية للمقاومة في إدارة معركتها من تحت الأرض، وبالتالي نجاحها في شل مفعول سلاحي الجو والمدّرعات الصهيونيين- إثر ذلك، أضافت الحكومة الصهيونية هدفا جديدا لم تعلن عنه في بداية العدوان، ألا وهو تدمير الأنفاق الهجومية، وبالتالي منع المقاتلين من التسلل عبرها إلى داخل \"إسرائيل\".  لذا، شرع الصهاينة لاحقا في الهجوم البري.  ورغم عمليات الذبح الجماعي البشع وإبادة عائلات فلسطينية عن بكرة أبيها؛ وتدمير آلاف المنازل تدميرا كاملا أو جزئيا، وسقوط آلاف الشهداء والجرحى، إلا أن القيادة الصهيونية فشلت في إنجاز الأهداف التي سبق أن أعلنتها:  وقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزّة، إضعاف المُقاومة وهدم الأنفاق الهجوميّة، وبالتالي إعادة قوّة الردع لجيشها.  ومع مرور الأيام، تعمقت البلبلة الصهيونية فيما يتعلق باستراتيجية الخروج من الحرب وكيفية إنهائها؛ وذلك رغم المناخ العربي الرسمي المتواطئ، وبخاصة موقف نظام السيسي المنحاز بوضوح للعدوان؛ إذ أصر على إغلاق معبر رفح ورفض استقبال الجرحى، بل ابتز القلة الهامشية من الجرحى الذين وصلوا إلى مصر، وتابع أثناء العدوان عملية تدمير الأنفاق على حدود مصر-غزة.  المقاومة الفلسطينية وإبداعاتها القتالية أحرجت العديد من الأنظمة العربية التي أنفقت خلال السنوات الأخيرة مئات المليارات من الدولارات على تكديس الأسلحة الأميركية والأوروبية لاستخدامها في الحروب الأميركية الهادفة إلى تفتيت البلاد العربية (العراق، سوريا، ليبيا...إلخ)، وقد تأملت تلك الأنظمة تسديد ضربة قاضية للمقاومة؛ إلا أن تكتيكات الأخيرة العسكرية وإتقانها فنون المواجهة، وشروعها في عمليات  التصنيع العسكري الذاتي، على بساطته، أذهل العالم وصدم الأنظمة المتواطئة قبل أن يصدم الصهاينة.

ورغم التبجح الصهيوني بكثرة عملائه وتفوق أجهزته الاستخباراتية والجاسوسية، فقد شكل العجز الاستخباراتي الصهيوني الكبير أبرز وأخطر ملامح الحرب الصهيونية ضد قطاع غزة؛ إذ برز لدى المؤسسة الصهيونية نقصا هائلا في المعلومات الاستخباراتية التي يفترض بأجهزة \"الشاباك\" و\"الأمان\" (الاستخبارات العسكرية) أن توفرها لها، وبخاصة ما يتعلق بمواجهة عشرات الأنفاق التي تصل أعماقها إلى 20 مترا أو أكثر؛ فعجزت  قوات الاحتلال- رغم ماكنتها العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية الضخمة، ورغم أنها تعتبر رابع أقوى جيش في العالم- عجزت في اكتشاف معظمها وتدميرها، بما في ذلك تلك التي تتواجد على حدود القطاع مع فلسطين المحتلة عام 1948، بل ويصل بعضها إلى الداخل الصهيوني.  وتعد تلك الأنفاق تهديدا إستراتيجيا على \"إسرائيل\"؛ وبخاصة أن المقاومة نجحت من خلالها في التغلغل إلى المعسكرات والمستعمرات الجنوبية التي تبعد مئات الأمتار عن \"حدود\" غزة، وسط كثافة النيران الإسرائيلية من الجو والبحر والبر.  والأهم من ذلك، أن سلاح الجو فشل في حسم المعركة، بينما زج الهجوم البري (لاحقا) الجيش الصهيوني في الفخ الذي أعدًّته المقاومة بعناية.  

شبكة الأنفاق والتخطيط العملياتي المحكم

تذكرنا الأنفاق في غزة بتكتيكات حرب الأنفاق المميزة التي اتبعها ثوار الفيتكونغ في فيتنام ضد الاحتلالين الفرنسي والأميركي، خلال الخمسينيات والستينيات وحتى أوائل السبعينيات؛ فسجلوا انتصارات أسطورية، وبخاصة في مدينة \"سايغون\" (هوشي منه حاليا) في جنوب فيتنام ومنطقة \"كوتشي\" تحديدا.  ومن خلال شبكة الأنفاق الواسعة، أبدع الفيتناميون في عمليات الإختفاء والتمويه، فباغتوا المحتلين بهجمات فجائية ومن ثم اختفوا سريعا دون ترك آثار من خلفهم.  وقد حُفِرت الأنفاق الفيتنامية بما يتلائم وطوبوغرافيا وتضاريس المنطقة، فسُخِّرَت لمواجهة المحتلين وآلياتهم وأسلحتهم، إضافة للاحتماء من الغارات والقنابل الحارقة الأميركية.  وقد استفادت المقاومة اللبنانية (حزب الله) من تلك التجربة في الجنوب اللبناني.  إلا أن الأرض الرملية في قطاع غزة، كما يبدو، جعلت حفر الأنفاق أكثر سهولة، ودون ضجيج، بخلاف تضاريس وطبيعة الأرض الصخرية في جنوب لبنان حيث يعتبر حفر الأنفاق أكثر صعوبة وتعقيدا وضجيجا. 

وبسبب خوف مستوطني المستعمرات الإسرائيليّة الجنوبية الواقعة في ما يسمى \"غلاف غزة\" من عملية فدائيّة كبيرة عبر الأنفاق التي لا يزال معظمها غير معروف للقوات الصهيونية، فقد هرب نحو 90% من أولئك المستوطنين من مستعمراتهم باتجاه وسط فلسطين (تل أبيب وضواحيها).

المعركة ضد العدوان أديرت فلسطينيا بأسلوب علمي وهندسي وتخطيط عملياتي محكم.  عنصر المفاجأة الفلسطينية كان حاضرا طيلة فترة الحرب، حيث موه المقاتلون أنفسهم بملابس الجيش الإسرائيلي، ونصبوا كمائن لوحدات النخبة الصهيونية مثل وحدات \"غولاني\" و\"جفعاتي\" و\"إيجوز\" و\"سييرت مطكال\" التي تتبع مباشر للاستخبارات العسكرية (أمان)، ووحدة \"شالداغ\" المنوط بها تحديد أهداف العدو وتوجيه سلاح الجو لقصفها.  وأبدع المقاتلون في تنفيذ عمليات هجومية مباغتة ضد التجمعات العسكرية في العمق الإسرائيلي؛ فتمكنوا من قتل وإصابة ضباط إسرائيليين كبار، كما في عمليتي أشكول ونحال عوز داخل إسرائيل، إضافة إلى صوفا، نير عام، كيبوتس بيري وغيرها.  ومن خلال إطلاقها قذائف RPG ومضادات الدروع نجحت المقاومة أيضا في تدمير دبابات \"ميركافا\" التي تعتبر فخر الصناعات العسكرية الإسرائيلية. 

التصعيد الهائل في الاستهداف الإسرائيلي المكثف والهمجي للأطفال والنساء والشيوخ هو أساسا تعبير عن فشل أحد أضخم جيوش العالم في مواجهته العسكرية للمقاومة؛ فأخذ يثأر من خلال اقترافه مجازر بشرية مرعبة وإبادة أسر بأكملها وبث الهلع في أوساط المواطنين العاديين والقصف الهستيري العشوائي لكل شيء ولكل مكان، وتكثيف الغارات الليلية في جميع أنحاء القطاع، لإشعار الأهالي بعدم وجود أي زاوية آمنة في بلدهم، وبالتالي دفع الناس نحو التذمر الضاغط على المقاومة كي تستسلم أو تقبل بالهدنة بحسب الإملاءات والشروط الصهيونية.  وبالطبع، لم تتحقق الأمنيات الصهيونية، وما شاهدناه أثناء المعركة هو التماسك الفلسطيني الداخلي والتأييد الشعبي غير المسبوق للمقاومة في غزة، رغم الأعداد الضخمة من الشهداء والجرحى والحجم الهائل للدمار؛ فواصلت المقاومة تسجيل ليس فقط إنجازات وإبداعات عسكرية على الأرض، بل أيضا ضربات موجعة لبنية الاقتصاد الإسرائيلي.  وقد تجسد أبرز مظاهر النصر المعنوي الذي حققته المقاومة، في إغلاق سماء إسرائيل أمام الطيران المدني العالمي وشل عمل مطار اللد (\"بن غوريون\") وإلغاء شركات عالمية لرحلاتها، ما كبد \"إسرائيل\" خسائر بمئات ملايين الدولارات خلال بضعة أيام.  وقد بلغت التكلفة الإسرائيلية اليوميّة للعدوان ضد قطاع غزة 43 مليون دولار أميركي، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية الكبيرة في القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدماتية (السياحة وغيرها).  وللمقارنة، ثمن كل صاروخ في منظومة القبة الحديدية حوالي 50 ألف دولار؛ بينما لا يتجاوز ثمن صاروخ القسام بضع مئات من الدولارات.

ثقة متآكلة ومهزوزة في القيادة الإسرائيلية

من الأمور التي أثارت دهشة العرب والعالم، بل والإسرائيليين أنفسهم، المصداقية العالية التي تمتعت بها المقاومة التي كَذَّبَت مرارا، وبشكل منهجي علمي، مزاعم ا\"إسرائيل\" حول إنجازاتها وتحقيق أهدافها، إضافة إلى محاولة إخفائها العدد الحقيقي لجنودها القتلى، ونوعية العمليات الفدائية الفلسطينية التي تميزت بالابتكار المبدع عسكريا.  وقد بلغت تلك المصداقية أوجها حينما عرضت المقاومة توثيقا مصورا للأسلحة الإسرائيلية التي غنمتها، ولعدد من العمليات العسكرية النوعية، مثل عملية نحال عوز.  توقيت بث شريط العملية الأخيرة شكل بحد ذاته ضربة معلم، إذ جاء مباشرة إثر الكلمة الشهيرة التي ألقاها محمد ضيف القائد العام لكتائب القسام، وتحديدا في اليوم الثالث والعشرين للعدوان؛ فصدم الشريط وصعق الجمهور الإسرائيلي، وبخاصة أنه كشف تفاصيل عملية الإنزال الفلسطيني خلف خطوط العدو في معسكر \"ناحل عوز\"، وأظهر محاولة أسر الجندي الصهيوني الذي قاوم، فقرر مقاتلو القسام قتله إلى جانب تسعة جنود آخرين.  وعرض الشريط أيضا قطعة السلاح الإسرائيلي المعروفة بـ \"تبور\" التي غنمها المقاتلون المهاجمون.  الشريط بَيَّن جبن الجنود الصهاينة وزيف قوّة ردعهم التي طالما تغنوا بها. 

إذن، من خلال نشاطها العسكري المتميز ميدانيا وتحت كثافة النيران المعادية المدمرة وغير المسبوقة، فندت المقاومة أكاذيب القيادات السياسية والعسكرية الصهيونية؛ ما عزز الثقة بمصداقيتها وفاقم الشكوك بالرواية الإسرائيلية التي اهتزت ثقة الإسرائيليين والرأي العام الأجنبي بها. 

مصداقية المقاومة بلغت أوجها فور انتهاء مدة الهدنة المؤقتة الأولى (72 ساعة) بين الخامس والثامن من آب؛ ففي اليوم الثالث والأخير للهدنة هددت المقاومة بمواصلة قصفها \"إسرائيل\" في حال عدم تلبية الأخيرة لمطالبها التي طرحها الوفد الفلسطيني المفاوض في القاهرة؛ علما أن المقاومة فرضت على هذا الأخير، لأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، أن يفاوض انطلاقا من مطالب المقاتلين أنفسهم في أرض المعركة.  وأثناء مفاوضات القاهرة، حاولت \"إسرائيل\"، دون جدوى، تحقيق الأهداف التي عجزت عن تحقيقها بالقوّة العسكريّة، من قبيل تجريد المقاومة من سلاحها؛ إلا أنها اضطرت للتخلي عن هذا المطلب المتعجرف ولو مرحليا. 

وحيث أن \"إسرائيل\" ماطلت ولم تلب مطالب المقاومة، عاودت الأخيرة قصفها للمستعمرات وأثبتت بأن لا قيمة لكل الادعاءات الإسرائيلية بالنصر الذي حاولت القيادات السياسية والعسكرية الصهيونية تسويقه للشارع الإسرائيلي؛ فانهارت مزاعم الأخيرة بالإنجازات العسكرية الباهرة، وأصيبت بالإرباك الشديد والبلبلة، وقررت فتح الملاجئ الإسرائيلية مجددا حتى مسافة 80 كم شمال قطاع غزة.  وهنا بدا قائد الأركان الصهيوني \"بيني غينيتس\" أضحوكة في نظر الرأي العام الإسرائيلي، حينما قدم وعودا متسرعة غير مبنية على وقائع؛ فأعلن في اليوم الثلاثين للعدوان عن انتهاء الحرب ودعا المستوطنين إلى العودة لبيوتهم في المستعمرات الجنوبية \"لأن الهدوء سيعود الآن كما كان سابقا\".  وبعد ساعات قليلة، تكشف الكذب الصارخ لزعم \"غينيتس\" الذي فشل جيشه فشلا ذريعا في حماية المستعمرات؛ فتعمقت أزمة ثقة الإسرائيليين غير المسبوقة بجيشهم وقياداته التي رغم إعلانها في اليوم الثلاثين للحرب عن انتهاء العملية البرية، إلا أن غالبية المستعمرين رفضوا العودة إلى مساكنهم في المستعمرات المحاذية للقطاع والتي أصبحت شبه مهجورة، بسبب خوفهم من شبح الأنفاق الذي ما فتئ يلاحقهم حتى يومنا هذا، نظرا للعمليات النوعية الموجعة التي نفذتها المقاومة من خلال الأنفاق خلف خطوط الجيش الصهيوني، انطلاقا من قطاع غزة المتناهي الصغر في مساحته (لا تتجاوز مساحته 1.3% من مساحة فلسطين التاريخية، أو 6% من مساحة الضفة الغربية)؛ ما جعل المستعمرين يعيشون حالة من الرعب لم يعهدوها طيلة عقود طويلة.

ورغم ثقة الرأي العام الإسرائيلي المتآكلة والمهزوزة بالقيادة السياسية والعسكرية، إلا أن تأييد الشارع الإسرائيلي لمواصلة العدوان ظل كاسحا، بما في ذلك حزب \"ميرتس\" الذي يعتبر \"يساريا\"، كما أكدت الاستطلاعات الإسرائيلية (أثناء العدوان).  ومع ذلك، انسحب الجيش الإسرائيلي فجأة (من طرف واحد) إلى داخل \"إسرائيل\"، بعد فشله في التوغل بريا إلى عمق قطاع غزة؛ فظل يراوح في نقاط يبعد أقصاها 1-1.5 كم عن حدود القطاع مع \"إسرائيل\" (في مناطق مثل بيت حانون والشجاعية ورفح وخزاعة)؛ الأمر الذي يعتبر اعترافا إسرائيليا بالهزيمة العسكرية والعجز عن مواصلة العدوان، وبالتالي إعادة احتلال قطاع غزة بهدف إنجاز الأهداف المعلنة (وقف الصواريخ، تدمير الأنفاق ونزع سلاح المقاومة) وهي الأهداف التي من أجلها استدعي أكثر من 80 ألف جندي احتياط، وكأن الحرب شنت ضد دولة عظمى.

بعض رؤساء المستعمرات المحاذية لقطاع غزة اتهمت القيادتين العسكرية والإسرائيلية بالفشل، بل إن \"ألون دفيدي\" رئيس بلدية مستعمرة \"سديروت\" اتهم وزير الحرب الإسرائيلي موشي يعلون بالفشل الذريع في توفير الأمن لمستعمرات الجنوب.  وحاليا، يستعد قادة عسكريون وسياسيون إسرائيليون كبار للمثول أمام لجان تحقيق إسرائيلية سيتم على الأرجح تشكيلها لتحقق في مفاجآت الصواريخ والأنفاق والانجازات العسكرية الهامشية التي حققها الجيش، مقابل الكثير من الفشل العسكري في الحرب ضد المقاومة الفلسطينية.

اختراق للتنسيق الأمني الإسرائيلي-الفلسطيني

منذ عدوان 2008-2009 أعدت المقاومة نفسها إعداد جيدا لمواجهة العدوان الأخير، وطورت قدراتها الدفاعية والهجومية والتسليحية والصاروخية، وشيدت بنية تحتية ولوجيستية مذهلة، أبرزها شبكة الأنفاق الدفاعية والهجومية التي شيدت بدقة هندسية متناهية قَضَّت مضاجع العدو، فضلا عن أنفاق تخزين الأسلحة والذخيرة ونقلها، وارتقت المقاومة نوعيا في التكتيكات والمهارات العسكرية المستخدمة، بما في ذلك المباغتة والاختفاء والتمويه.  كما طورت قدرات تصنيعية وإنتاجية للصواريخ، في المستويين التكتيكي والاستراتيجي، باستخدام معدات بسيطة ومتواضعة لتصنيع صواريخ يصل أقصى مداها إلى 160 كم، ومن أبرز هذه الصواريخM75 ،G80 ،M103 ،R160 ، فجر3 وفجر5، وبراق 70 الذي يصل مداه إلى أكثر من 70 كم وتمكن من استهدف مطار اللد (بن غوريون) وقواعد عسكرية ومستعمرات في العمق الإسرائيلي؛ ولطالما تكرر هروب القيادات الإسرائيلية إلى الملاجئ، لدى سماعها صفارات الإنذار، كما حدث مع وزير الأمن الداخلي \"يتسحاق أهرونوفيتش\" وغيره.

هذا الواقع العسكري يشي بأن المعركة القادمة قد تتميز بإعداد فلسطيني أفضل وأقوى، وبأنفاق أطول، وبصواريخ أكثر دقة وطاقة تدميرية؛ وربما قد يحدث اختراق للتعاون الأمني القائم بين الأجهزة الأمنية-المخابراتية الفلسطينية والإسرائيلية في الضفة الغربية، باتجاه نقل المهارات العسكرية وتكنولوجيا الصواريخ والأنفاق من غزة إلى مدن وأرياف الضفة؛ ما قد يشل فاعلية الجدار الكولونيالي.  

خلاصة، استنتاجات وآفاق مستقبلية

شرائح كبيرة من المجتمع الكولونيالي اليهودي في فلسطين، تخلت عمليا عن الحلم الصهيوني القديم و\"الهجرة\" الحالمة إلى \"أرض إسرائيل\"، وسط شيوع الإحساس بالقلق وانعدام الأمن واهتزاز كبير في الثقة بالجيش الإسرائيلي الذي فشل في منع تنامي قدرات المقاومة، بداية في لبنان، ومن ثم في فلسطين، ووضع حد للموت الجوال الذي تحمله العمليات الفدائية والصواريخ الفلسطينية واللبنانية للإسرائيليين أينما كانوا في \"إسرائيل\".  ففي قطاع غزة تحديدا، ورغم الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب عام 2005 هروبا من المقاومة هناك، لم تستقر الأوضاع الأمنية، بل تصاعدت لاحقا رغم الحصار التجويعي الرهيب المفروض عليه منذ عام 2006، وفشلت \"إسرائيل\" في سحق المقاومة (رغم بدائية ومحدودية الأسلحة التي بحوزتها)، وفي إعادة قطاع غزة المتمرد إلى أحضان السلطة الفلسطينية في رام الله.  المجازر البشرية البشعة التي اقترفتها القوات الإسرائيلية في حروبها المكثفة خلال كانوني 2008 و2009 وحرب الأيام الثمانية في كانون أول 2012 وانتهاء بحرب الإبادة الأخيرة وما تخللها من قصف وتدمير هائلين واستخدام القنابل الفوسفورية الحارقة وقنابل \"الدايم\" العنقودية وكل الأسلحة الإسرائيلية الثقيلة الأخرى، وتحول قطاع غزة إلى مختبر إسرائيلي-أميركي لفحص أسلحة الإبادة- كل ذلك لم ينجح في إخضاع قطاع غزة والمقاومة.  والأخطر من ذلك رسوخ حالة من \"توازن الرعب\" المتبادل (إذا صح التعبير) بين \"إسرائيل\" والمقاومة، ليس فقط مع المقاومة اللبنانية (حزب الله)، بل أيضا مع قطاع غزة.  وعلى سبيل المثال، إثر الانتهاكات الإسرائيلية العسكرية المتواصلة لهدنة كانون أول 2012 مع المقاومة في غزة، والقصف الإسرائيلي المتكرر واستهداف مقاومين في آذار 2014، وبخاصة من حركة الجهاد الإسلامي (في غزة)، بادرت المقاومة (وبخاصة الجهاد الإسلامي) إلى قصف جنوب فلسطين بأكثر من 160 صاروخا؛ فكان الرد الإسرائيلي مجرد بضع غارات وقصف جوي محدود تركز أغلبه في مناطق مفتوحة بقطاع غزة.  وذلك، رغم التهديد والوعيد الإسرائيليين والتلويح بإبادة القطاع.  بل هرول نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية نحو النظام المصري (عبد الفتاح السيسي) طالبا منه التوسط لإعادة التهدئة. 

وفي محاولة لتعزيز تميزها البشري والعسكري النوعي، وزيادة \"جاذبيتها\" ليهود العالم، ركزت \"إسرائيل\" في السنوات الأخيرة على محاولة رد هيبة قوة الردع العسكرية الصهيونية المتآكلة وترميم الثقة الإسرائيلية المهزوزة بها، وإعادة تسويق \"تميز\" الآلة العسكرية و\"تفوقها\"؛ لذا فإن المناخ الإعلامي والنفسي والسياسي الإسرائيلي، والاستعدادات والمناورات الإسرائيلية، كانت كلها تصب في اتجاه حرب جديدة.  الحرب الأخيرة كانت ضرورة إسرائيلية لرد الاعتبار لقوة الردع الإسرائيلية التي ثبت تآكلها في حرب عام 2006 ضد المقاومة في لبنان، وفي الحرب ضد المقاومة في قطاع غزة؛ ولإعادة التوازن النفسي الداخلي للجنود الإسرائيليين الذين فقد العديد منهم ثقتهم بقياداتهم العسكرية والسياسية.  فكان لا بد إذن، من المنظور الصهيوني، من ضربة عسكرية \"نوعية\" خاطفة ضد حزب الله  أو المقاومة في غزة، أو ربما سوريا وإيران، لترميم هيبة و\"كرامة\" القوات الإسرائيلية والأجهزة الأمنية والمخابراتية، بعد أن كشفت الحرب ضد حزب الله (عام 2006)، وضد المقاومة الفلسطينية في غزة (وبخاصة في كانون أول 2012)، الواقع البنيوي والعملياتي العسكري المتدني للجيش الإسرائيلي، والتشوهات التي ميزت المنظور الحربي للقيادات العسكرية والسياسية، وضعف جاهزية الوحدات العسكرية التي زج بها في المعركة، وبالتالي، الأخطاء الفادحة (وبخاصة في لبنان) التي ميزت المنظور الحربي، ومحدودية القوة العسكرية والمخابراتية الإسرائيلية، وزيف الأساطير التي حيكت حولها.  

نقطة الضعف المركزية في المجتمع الصهيوني تتمثل بالعنصر البشري؛ بمعنى أنه في حال أخذت هجمات المقاومة العربية والفلسطينية المستقبلية تنال من نقطة الضعف هذه، فإن المجتمع الصهيوني لن يتمكن من تحمل عمليات الاستنزاف المتواصلة في بنيته البشرية وبخاصة البشرية العسكرية؛ ما يعني أن \"الهجرة\" اليهودية المعاكسة ستزداد.

يعد السيناريو الأخير واقعيا ومحتملا؛ وبخاصة لو تذكرنا، على سبيل المثال، أن مقاتلي المقاومة العربية الإسلامية تمكنوا، أثناء الحرب الإسرائيلية ضد لبنان عام 2006، من تصعيد وتيرة القصف الصاروخي اليومي، فأثبتوا قدرات عسكرية وأمنية ومخابراتية مهنية مثيرة؛ وفشلت \"إسرائيل\" في تحقيق أهدافها العسكرية المعلنة على الأرض حتى يومنا هذا (سحق المقاومة وتدمير ترسانة صواريخ حزب الله)، بل احتفظ حزب الله طيلة فترة الحرب (34 يوما) بقدرته على القصف المكثف لشمال \"إسرائيل\" وحيفا، وحتى جنوب مدينة الخضيرة وربما أبعد من ذلك، بمئات الصواريخ متوسطة المدى يوميا.  وقد أثبت الحزب أيضا بأن مقاتليه يمتلكون القدرة على قصف أهداف اقتصادية وعسكرية استراتيجية، برية وبحرية، في العمق الإسرائيلي.  وتبين أيضا بأن لدى مقاتلي الحزب القدرة على استهداف أهداف عسكرية بحرية إسرائيلية متحركة.  وقد دأب الإعلام الإسرائيلي، في السنوات الأخيرة، على الترويج بقوة، بأن حزب الله تمكن، منذ توقف حرب عام 2006 ضد لبنان، من تهريب عشرات آلاف الصواريخ إلى لبنان، بما في ذلك الصواريخ التي يتراوح مداها 170 كم و250 كم وربما أكثر، القادرة على الوصول إلى مدينة بئر السبع في أقصى الجنوب، ومدينة تل أبيب في الوسط؛ ما يشكل تهديدا استراتيجيا لدولة \"إسرائيل\".  يضاف إلى ذلك، الصواريخ الفلسطينية التي وصلت، لأول مرة، إلى منطقتي القدس وتل أبيب، أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في كانون أول 2012، ثم وصلت إلى مدن حيفا وتل أبيب والقدس أثناء العدوان الأخير (2014)، رغم شراسة ذلك العدوان وكثافة النيران الإسرائيلية.

لقد كشفت الحرب الإسرائيلية ضد لبنان (تموز-آب 2006)، والعدوان الإسرائيلي الأخير ضد غزة (2014)، زيف العديد من الفرضيات الاستراتيجية والمفاهيم الحربية الإسرائيلية؛ فأماطت اللثام عن الخلل الواضح في بنية ووظائف القوات العسكرية الإسرائيلية.  ومن أبرز الفرضيات الخاطئة تلك المتمثلة في \"السيطرة الجوية\" المطلقة؛ بمعنى أن سلاح الجو الإسرائيلي يستطيع، خلال أيام قليلة، القضاء على إطلاق الصواريخ بكافة أصنافها، ومن ثم السيطرة على ساحة المعركة.  كما تبين خطأ المفهوم الحربي الشائع، بأن سبب كون \"إسرائيل\" غير مهددة من الجيوش التقليدية، إنما يكمن في فرضية أن العرب الرسميين يعتبرون القوة الإسرائيلية هائلة ولا تقهر.  وقد تجلت هشاشة تلك الفرضيات والمفاهيم في حقيقة استهداف المقاومتين اللبنانية (عام 2006) والفلسطينية (2014) للعنصر البشري الإسرائيلي؛ إذ تحول هذا العنصر، إلى جانب بعض الأهداف الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية، إلى الهدف الأول والحلقة المركزية لنشاط المقاومة.  وهذا ما شكل نوعا من \"توازن الرعب\" (إذا صح التعبير)، بدلا من توازن القوى التقليدية؛ علما أن المجتمع البشري الصهيوني لا يستطيع تحمل عمليات الاستنزاف والخسائر المتواصلة في بنيته البشرية، وبخاصة في صفوف جيشه؛ ما جعل \"النزوح\" الإسرائيلي الجماعي من مناطق الجنوب الفلسطيني (عام 2014 وقبل ذلك عام 2012) ومن مناطق الشمال الفلسطيني والجليل (عام 2006)، مطلبا إسرائيليا \"شعبيا\". 

وفي سياق تأكيده لحساسية وخطورة الاستنزاف البشري، أقر \"إيتي بارون\" رئيس شعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (\"أمان\")، خلال مؤتمر \"هرتسيليا\" السنوي \"للأمن القومي\" الإسرائيلي الذي انعقد في حزيران 2014- أقر بأن طريق انتصار المقاومة الإسلامية تحديدا، يتحقق من خلال الاستنزاف؛ إذ أن \"إسرائيل\" لا تستطيع أن تقاتل لفترة زمنية طويلة مع الكثير من الإصابات، كما كان الحال في حرب لبنان الثانية (عام 2006)، واعتبر بارون أن العنصر الأساسي لدى المقاومة يتمثل في تحسين قدرتها على إصابة الأهداف في الجبهة الإسرائيلية الداخلية؛ ما يعني \"شن المعركة من جبهتهم الداخلية ضد جبهتنا الداخلية، بهدف تعزيز قدرتهم على البقاء والامتصاص\".   

في الواقع، لا تستند التبجحات العسكرية المتجذرة في الوعي المشوه للعديد من السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، إلى المعطيات والوقائع والتجارب الصلبة على الأرض، بل إنها تستند إلى خرافة القوة المطلقة القادرة على كل شيء.  علاوة على أن العديد من الإسرائيليين يؤمنون بحتمية تحقيق الانتصار الإسرائيلي المطلق على الفلسطينيين واللبنانيين، بل والسوريين.  لكن، على ضوء تشخيص حالة الجيش الإسرائيلي، تبدو احتمالات النصر الإسرائيلي، في المستقبل، على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، مشكوك بها.  وما يؤكد ذلك، بعض المؤشرات السلبية المتصلة بالجهوزية القتالية للجيش الإسرائيلي، ومن أهم هذه المؤشرات، أن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن، لغاية الآن، من بلورة رد فعال وحاسم على قصف العمق الإسرائيلي بالصواريخ متوسطة وقصيرة المدى؛ إذ، وبعكس الإدعاء الإسرائيلي الرسمي، لا يوجد حاليا، ولن يتوفر في المستقبل القريب على ما يبدو، سلاحا فعالا مضادا للصواريخ؛ علاوة على انعدام التكنولوجيا القادرة على القضاء نهائيا على ظاهرة الأنفاق العسكرية.  كما لم تجر، لغاية اليوم، أية استعدادات لوجستية فعالة للعناية بالسكان المدنيين في الجبهة الإسرائيلية الخلفية، وتوفير الحماية لهم؛ علما بأنه في الحرب القادمة، ستتساقط الصواريخ الأكثر دقة وطاقة تدميرية على الإسرائيليين في جميع أنحاء فلسطين دون استثناء.

ولدى تقديرنا لقوة الآلة العسكرية الإسرائيلية، من الضروري التعامل بموضوعية مع هذه الآلة، بمعنى أن لا نهول نقاط قوتها أو نستصغرها، وبخاصة أن جزءا هاما من صورة \"إسرائيل\" المسوقة لنا حول \"قوتها\" يعتمد على المبالغة والترهيب والحرب النفسية، أكثر من اعتماده على الواقع.  فالعيوب والثغرات البنيوية والعملياتية الجدية لا تزال تعطل جهوزية الجيش الإسرائيلي القتالية للحرب القادمة، الأمر الذي سيقوي، بالمقابل، منظور وخطط المقاومة في تعاملها مع العنصر البشري الإسرائيلي، باعتباره الحلقة المركزية في فعلها المقاوم المرتكز على \"حرب العصابات وحرب الشوارع\"، ما يعني إفشال الفلسفة العسكرية الإسرائيلية القائمة على زرع الرعب في صفوف العرب، وعلى المبادرة بالهجوم \"الوقائي\" الخاطف ونقل المعركة إلى أرض العدو؛ ما يعني أيضا حرمان الجيش الإسرائيلي من الاستفادة من تفوقه النوعي في الحرب التقليدية، وإرغامه بالتالي على المواجهة طويلة الأمد.

إن مواجهة عسكرية مكثفة طويلة الأمد، تمتد لأشهر طويلة أو سنوات، سوف تعني استنزافا متواصلا في البنية البشرية الصهيونية؛ ما سيحفز بقوة تعاظم \"الهجرة\" اليهودية المعاكسة، وسيدفع العديد من اليهود إلى \"النزوح\" نحو الخارج، وبخاصة أولئك الذين يملكون جوازات سفر أجنبية.  

اخر الأخبار