أي أوراق يعاد خلطها بعد حرب غزّة؟

تابعنا على:   10:25 2014-07-29

عبد الوهاب بدرخان

أعادت الحرب الثالثة في غزة تأكيد حقائق قد تكون هي ذاتها التي دلّت إليها الحربان الأوليان في 2008-2009 و2012. وأبرز تلك الحقائق أن الجمود الذي فرضته إسرائيل على \"عملية السلام\" أولاً، وعلى الموقف من الحال التي مثّلتها غزة، كان وسيبقى مصدراً لتجدّد المواجهات.

كان التذرّع بأن الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 هي التي صعّدت التطرّف الإسرائيلي مفهوماً لبعض الوقت، ولم يعد مفهوماً بعد سنوات من بناء الجدار العنصري والتنسيق الأمني مع السلطة ووجود حكومات فلسطينية في رام الله عملت على تغيير مزاج الشارع من استخدام العنف إلى تفعيل المقاومة الشعبية السلمية. وبعد الانسحاب من قطاع غزة في 2005 وانتصار \"حماس\" في الانتخابات استُخدمت ذريعة أخرى مستندة إلى كون \"حماس\" لا تعترف بإسرائيل، ثم بعد انقلاب \"حماس\" على السلطة في 2007 نشأ وضع ارتاحت إليه إسرائيل واعتبرت أنه حقق لها هدفاً استراتيجياً - فصل الضفة الغربية عن القطاع - من دون أي عناء وما كانت لتتمكّن من فرضه من خلال المفاوضات.


منذ اجتياح أرييل شارون الضفة عام 2002 تم عملياً الإجهاز على \"عملية السلام\" وفُتح الطريق لتسابق المتطرّفين وتزاحمهم للوصول إلى قمة السلطة في إسرائيل، وأصبحت الحكومات أقرب إلى جهاز لإدارة الفساد السياسي منها إلى طاقم سياسي يدرك مسؤوليته في حل الصراع مع الفلسطينيين. وقد ظهرت ملامح هذا الفساد بجلاء في الأزمة الأخيرة التي لعب فيها \"أفيجدور ليبرمان\"و\"نفتالي بينيت\" ومن هم على يمينهما دوراً رئيسياً في الدفع باتجاه العدوان على غزة هروباً من مشاكل أخرى داخلية وإثباتاً لحقيقة أن المستوطنين الموتورين باتوا هم أصحاب القرار في إسرائيل.

في المقابل كان الأميركيون والأوروبيون والعرب يشجعون - بل يضغطون على - السلطة الفلسطينية كي تحافظ على خط معتدل نابذ للعنف، حتى بعدما أصبحت للمستوطنين ميليشيات متمتّعة بحماية حكومية لتقتل وتحرق وتخرّب. وعندما حاولت السلطة المعتدلة تحسين وضعها سياسياً من طريق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، اعترض الأميركيون والإسرائيليون ووقفوا بالمرصاد وفرضوا حصاراً مالياً ودبلوماسياً، بل هدّدوا الرئيس محمود عباس شخصياً. ولما جرّب الأميركيون إحياء المفاوضات لتنفيس الاحتقان وإيجاد شيء من التوازن، قطع حلفاؤهم الإسرائيليون المتطرّفون الطريق عليهم، وبعدما وجّهوا إهانات مباشرة وغير مباشرة للرئيس الأميركي انتهوا إلى إهانة وزير خارجيته وإجباره على التخلّي عن أي مسعى لتحريك المفاوضات. وأخيراً بعدما يئست \"السلطة\" من العجز الأميركي والتعنّت الإسرائيلي عادت إلى ما كان عليها دائماً أن تفعله، أي أن تجري المصالحة الفلسطينية، ولكن هنا أيضاً كان الاعتراض الإسرائيلي وقحاً وواضح العدوانية، ولم يكن \"التفهّم\" الأميركي مطمئناً.

فماذا عنى ذلك كلّه؟ وماذا يريد الإسرائيليون والأميركيون إذاً طالما أنهم لا يحسنون التعامل مع المعتدلين الفلسطينيين ويرفضون التعامل مع مَن يعتبرونهم متطرّفين؟ عنى ذلك أولاً أن حكومة المتطرّفين الإسرائيليين تفضّل أن ترى في مواجهتها متطرّفين مثلها لتنال \"مشروعية\" إطلاق النار عليهم، بل عنى أن تهميش السلطة الفلسطينية ومعتدليها، والتلاعب بمصير القضية الفلسطينية عبر استغلال انشغال العالم بالاضطرابات العربية مشرقاً ومغرباً، وكذلك بمخاطر الإرهاب \"الداعشي\" المنبثق من أزمتي سوريا والعراق. كان في التوحّش والاستفزاز اللذين عقبا خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم دعوةً لغزّة ولـ \"حماس\" كي تستفيد أيضاً من البلبلة الإقليمية. لكن غزّة مستفزَّة أصلاً بفعل الحصار الخانق وإقفال المعابر وردم الأنفاق، و\"حماس\" مستفزَّة أيضاً بفعل الضربة الشديدة التي تلقّتها في مصر إلى جانب جماعة \"الإخوان المسلمين\" وشعورها بتضاؤل أهميتها الاستراتيجية فلسطينياً وعربياً.

الحرب الثالثة في غزّة، جاءت على خلفية فشل ذريع للمسار التفاوضي، وبلوغ العجز الأميركي حدّاً غير مسبوق في تاريخ التحالف الأميركي - الإسرائيلي، وتوحّش المتطرّفين داخل الحكم الإسرائيلي، ومحاولة تيار الإسلام السياسي وقف الانهيار الذي يتعرض له في العالم العربي... هذه الحرب أعادت خلط الأوراق، فلسطينياً على الأقل، إذ أعادت المقاومة المسلّحة إلى صدارة المعادلة، إلى ما كانت عليه مع الانتفاضة الأولى، وفرضت خيار العودة إلى \"المشروع الوطني الفلسطيني\"، الذي كان يزاوج بين المقاومة والتفاوض. لكنها فرضت حقائق أولية لا بد أن تنعكس على الصياغة الجديدة لهذا \"المشروع\"، ذاك أن الحرب عززت موقع \"حماس\" شعبياً، وألقت ظلالاً على \"المصالحة\"، وكرّست واقعياً الانقسام الجغرافي بين الضفة والقطاع من دون أن ننسى الانقسام السياسي والنفسي والاجتماعي.

وعلى المستوى الخارجي، أصبحت الأطراف الدولية والإقليمية على يقين بأن لديها مأزقاً لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالمسكّنات لمعالجته، ولا تأجيل هذه المعالجة إلى ما بعد الرابعة وما بعدها. فقد يقال الكثير لإلقاء المسؤولية على \"حماس\" وحدها، لكن مسؤولية إسرائيل أكثر خطورة، ليس فقط باستخدام القوة وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وإنما خصوصاً بتعطيل كل الخيارات السلمية التي عرضها الفلسطينيون والعرب، ولا يزالون يصرّون عليها، لأن الحرب لم تعد بين خياراتهم. وعلى المجتمع الدولي، بالأخص الولايات المتحدة، تقع مسؤولية منع إسرائيل من أن تكون الحرب، والحرب فقط، خيارها الأوحد، وفقط لأنه يناسب الفساد السياسي في حكومة المتطرّفين..
عن الاتحاد الاماراتية

اخر الأخبار