صديقي أبو العيش ... ولكنهم يكرهوك

تابعنا على:   19:42 2018-12-15

د. جميل سلامة

د. عزالدين أبو العيش الطبيب والأكاديمي الفلسطيني البارع والمقيم في كندا والحامل لجنسيتها حديثا يعود من جديد لواجهة الإعلام المحلي والدولي، حيث أصبح عنوانا لوطن و رمزا لقضية شعبه المظلوم ، الحدث الجديد هو رفض القضاء الإسرائيلي قبل أيام دعواه القضائية التي يطالب فيها بالتعويض عن قصف منزله و قتل بناته الثلاث واصابة بنات أخريات من عائلته، و هي حلقة جديدة من حلقات مسيرة أبو العيش التي تجسد التراجيديا الفلسطينية في الوطن و الشتات لشعب يبحث عن مكان تحت الشمس ينعم فيه بالحرية و السيادة و الاستقلال أسوة بسائر شعوب الأرض.

مأساة أسرة ... و تراجيديا شعب

التاريخ : 16/1/2009م، والمكان غزة شارع صلاح الدين والحدث حرب إسرائيلية على قطاع غزة تستهدف المقاومة الفلسطينية فيها فيما أطلقت عليه إسرائيل عملية ( الرصاص المصبوب )، و هو اسم دموي يقطر إجراما و إرهابا و غلا و حقدا ،و الضحايا كثر من الأسر و العوائل الفلسطينية و المدنيين العزل الأبرياء.

كانت عائلة أبو العيش إحدى هذه العوائل المكلومة و كان مصابها الجلل أحد أبرز المشاهد في هذه الحرب المجنونة ، قذيفتا دبابة اخترقت جدران بيت أبو العيش لتسبب خسائر بشرية و مادية فادحة سقطت معها بيسان 20 عاما ،و ميار 15 عاما ،و آية 13 عاما بنات د. عز الدين أبو العيش شهيدات و معهن بنت أخيه نور 19 عاما ، وإصابة أخريات من بناته و بنات اخوانه، كان الحدث مجزرة حقيقية بكل معنى الكلمة و كارثة ألمت بهذه الأسرة ستبقى محفورة في أذهان الأحياء منها لأجيال وأجيال، جريمة بهذا الحجم أفقدت الطبيب أبو العيش صوابه فظهر على شاشات التلفاز وهو يصرخ في وجه الاحتلال في مشهد هستيري مؤثر هز قلوب الأعداء قبل الأصدقاء، بأي ذنب تقتل أسرته و بناته .... وتحت أي تدبير تزهق أرواح بريئة ،و بأي منطق تدمر أسرته أمام عينيه.

من المؤكد أن هذه المأساة ليست حالة منفردة أو معزولة ، بل هي حلقة في مسلسل جرائم طويل للاحتلال ضد شعبنا الفلسطيني المظلوم ، و هي جزء من تراجيديا شعب و وطن لا يزال يئن و ينزف تواقا للانعتاق من عبودية الاحتلال و لفجر الحرية و السيادة الحقيقية و الاستقلال .

رجل ... أيقونة وطن
أبو العيش رجل من طراز خاص يمثل النموذج الفلسطيني العصامي وابن المخيم الذي تمرد على كل القيود و العقبات ليشق طريقه نحو الأمل و المستقبل متسلحاً بسلاح العلم و المعرفة بعد أن عانى ما عانى أسوة بأبناء جيله من شظف العيش و مشقة الحياة ، فقد أنهى دراسة الثانوية العامة بتفوق و من ثم انتقل لدراسة الطب في مصر ليعمل بعدها في السعودية و منها يرتحل إلى لندن و إيطاليا وأمريكا للتخصص في طب النساء و الولادة و الإبداع فيه ليواصل رسالته بالعمل في المستشفيات الفلسطينية والإسرائيلية لحين وقوع مأساة حياته و قصف بيته في الحرب الصهيونية على قطاع غزة عام 2008/2009 و استشهاد ثلاث من بناته والحاق مأساة حقيقية بعائلته ، مأساة كانت محطة مفصلية في حياة الرجل الذي منحته طاقة معنوية هائلة لمواصلة مسيرته بعناد أشد و بإصرار أكبر، حيث انتقل بعدها إلى كندا لينال جنسيتها و يُدرس في جامعاتها و يؤسس مؤسسة تعليمية اجتماعية يخلد فيها سيرة بناته و هي مؤسسة بنات من أجل الحياة (daughters for life foundation )، لينال بعدها العديد من شهادات الدكتوراة الفخرية و يصبح ملء السمع والبصر في الغرب و يتوج ذلك بترشيحه أكثر من مرة لنيل جائزة نوبل للسلام و الط ، و هو أول فلسطيني يرشح لنيل هذه الجائزة العالمية الرفيعة و من القلائل الذين وصلوا لها عربيا كنجيب محفوظ و أحمد زويل... ، ليصبح بحق أيقونة وطن.

3- " لن اكره " ... وإنسانية راقية

" لن أكره " الترجمة العربية لكتابه الذي صدر بالانجليزية بعنوان "I shall not hate " عام 2010م بعد نحو عامين من مأساة أسرته الصغيرة، قرأت الكتاب و سبرت صفحاته ومراميه ، كان الكتاب يحتضن بين دفتيه سيرة الرجل و مسيرته منذ طفولته الأولى حتى حاضره في أسلوب تسلسلي شيق تناول فيه أبو العيش بداياته الأولى في بؤس مخيم جباليا و شقائه و صرامة أمه و حرصها على تعليمه مروراً بالعمل والدراسة معا و دراسته الجامعية و العليا و تخرجه كطبيب و تحمله فقدان والديه و من ثم زوجته و انتهاء بفاجعة أسرته و دمار بيته و استشهاد بناته الثلاث و بنت أخيه و إصابة غيرهن.

بيد أن اللافت في الكتاب رسالته التي تُختزل في عنوانه " لن أكره " و التي يحافظ فيها الكاتب المفجوع على إنسانيته كطبيب تجاه مرضاه حتى لو كانوا خصومه و أعداءه من المحتلين ، و لم تكن مأساته لترفع معدل الحنق و الثأر لديه – كما جبلت النفس البشرية - بل كانت دافعاً لرفع منسوب الناموس الإنساني في شخصيته في تميز استثنائي راقي يرفعه إلى مصاف قادة التغيير و الإصلاح المجتمعي في العالم ، ولم تكن هذه الفلسفة الفريدة وليدة نفاق أو تفريط بالحقوق ومساومة على دماء بناته و قضية شعبه بل كانت نابعة من قناعة الوفاء لقسم المهنة الإنسانية التي اختطها لنفسه ، و يؤكد ذلك مقاضاته للاحتلال على جريمته مطالبا إياه بالاعتذار و التعويض في إرادة فولاذية و صلبة يبرهن عليها كتابة القادم بعنوان " لن أخاف" I shall not fear.

4- حكم قضائي برسم الكراهية

بعد أن أقرت حكومة الاحتلال بمسؤوليتها عن جريمة آل أبو العيش حيث جاء هذا الإقرار بتاريخ 4/2/2009م على لسان المتحدث باسم جيش الاحتلال الذي صرح بأن قوة تابعة للواءالمشاة ( غولاني ) بالتعاون مع سلاح المدفعية اشتبهت بوجود مرصد مراقبة للمقاومة في منزل عائلة أبو العيش فقصفته بقذائف دبابة و أن الجيش يشعر بالحزن والأسى للأضرار التي لحقت بالعائلة زاعماً أن قوة النيران كانت معقولة، وذلك في تراجع عن اتهام سابق بأن بنات أبو العيش قتلن بنيران فلسطينية (صاروخ غراد)، وأضاف الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أن التحقيقات في الحادثة توصلت إلى أن الحادثة وقعت بسبب نشاط عمليات يحتمل وقوع الأخطاء خلاله و أن الجيش لا ينوي اتخاذ إجراءات تجاه القوات المشاركة في العملية.

بعد هذا الإقرار قام د. أبو العيش برفع دعوى قضائية ضد حكومة الاحتلال و تضمنت دعواه ثلاثة مطالب: أولها الاعتراف القانوني بالجريمة و ثانيها اعتذار الاحتلال عن جريمته و آخرها وثالثها دفع تعويضات له ولأسرته عن هذه الجريمة، وهي مطالب خلت من مطلب رابع وهام و هو محاسبة المسؤولين عن هذا الفعل و جلبهم أمام العدالة سيما في ظل تصريح الاحتلال بعدم نيته اتخاذ أية إجراءات تجاه قواته ، و يبدو أن أبو العيش أسقط هذا المطلب إدراكا منه باستحالة ذلك أمام القضاء الإسرائيلي رغم أن ذلك مكفول أمام القضاء الدولي.

مطالب أبو العيش في التشريعات القضائية المقارنة مطالب عادلة بل و عادية كفلتها جميع التشريعات الوطنية والإقليمية والدولية في عالم اليوم حيث يترتب عادة على الإقرار الجزائي في القوانين الجنائية التعويض المعنوي والمادي على حد سواء، يبد أن الصدمة كانت قبل أيام حيث رفضت المحكمة المركزية الإسرائيلية في بئر السبع دعوى أبو العيش بدفع تعويضات له عن قصف منزله و استشهاد بناته ، و جاء في قرار المحكمة " أن الحادث وقع أثناء عملية حربية و أن إسرائيل لا تتحمل مسؤولية الأضرار التي وقعت للعائلة زاعمة أنه كان يخبئ أسلحة للفصائل الفلسطينية في منزله " في التفاف آخر على الحقيقة ولي عنق الواقع وافتئات على العدالة التي من أبسط مبادئها أن الإقرار سيد الأدلة و ازدواجية خطاب تمييزي تنبعث منه رائحة الكراهية للأخر غير اليهودي و غير الإسرائيلي حتى لو كان طبيباً عالج و داوى مرضاهم في مستشفياتهم .

5- رسالتي لك يا صديقي

عند عرض الحكم القضائي و تداعياته على صفحتي على شبكة الفيسبوك facebook وانتقادي الحاد لهذه الخطوة الإسرائيلية علق صديقي أبو العيش على تغريدتي بقوله : ( تسلم دكتور لا زال الطريق أمامنا طويلا وأمامي كل الأبواب مفتوحة ولن أكل او أمل حتي يعود الحق والعدل لأصحابه، هذا القرار الظالم لن يزعزع إيماني يعدالةً قضيتنا ولن يكسر ارادتنا او يهزم الروح ولن يقتل الأمل ) ، وهو رد يشتم منه صلابة الفلسطيني و إرادته الفولاذية و قناعته بقضيته و عناده في ملاحقة جلاده المحتل .
أقول لك يا صديقي: مظلومتيك الشاهدة الشهيدة على إجرامهم لا تعني لهم شيئا ، وإقرارهم بالواقعة الذي يترتب عليه مسؤولية جنائية و مدنية (التعويض) لا تنطبق عليك في تمييز عنصري قانوني و قضائي- وسمه أبرتهايد قضائي جديد ان شئت – في انقلاب مكشوف على أبسط قواعد العدالة الإنسانية التي تعارف عليها المجتمع الدولي ، خاطبتهم يا عزالدين وغيرهم " لن أكره " لتعلمهم معنى الانسانية وقيم الأدمية وكان جوابهم نكرهك والانسانية لنا وليس لك ، انهم يكرهوك كرههم لشعبك و لعدالة قضية بلادك ، لن تشفع لك سنوات عملك في مستشفياتهم و معالجة مرضاهم ، لن تشفع لك أفكارك الإنسانية التعايشية و سمو مهنتك.

يا صديقي لا يسقط حق بالتقادم و حقك ثابت قانونا و قضاءً، عليك أن تستنفذ الطعون القضائية أمام محاكمهم فاما تحرجهم أمام أنفسهم ليتراجعوا و إما تفضحهم أمام العالم ، اعمل على تدويل قضيتك - قضيتنا جميعا – لاحقهم أمام القضاء الدولي و المحاكم الدولية و جميع الجهات القضائية التي ينعقد لها الاختصاص النوعي و الإقليمي، فالجريمة التي وقعت على أسرتك هي جريمة حرب مستمرة ضد الإنسانية وستبقى لعنة تطاردهم و على العالم أن ينصفك و حتما لا يضيع حق وراءه مطالب ، لست وحدك يا أبا محمد فكلنا معك، النجاح لك و الخلود لبناتك والمجد لشعبنا.

اخر الأخبار