ياسر عرفات.. سيّد الثورة وأب الوطنية الفلسطينية

تابعنا على:   18:23 2018-11-12

صالح عوض

في ذكرى استشهاده مسموما يشرق وجه ياسر عرفات بكل أبعاده الإنسانية والثورية.. الرجل الذي بنى دولته في خنادق القتال ونقلها معه فكرة مطارَدة من قبل جميع المنخرطين في المشروع الغربي.. كان يدرك تماما أي مستحيل هو مقدم عليه؛ إذ كيف سيسمح الغربيون بثورة فلسطينية تعيد فلسطين إلى قلب الأمة وتلغي سايكس- بيكو وأهدافه وتجمع أرض العرب؟ كيف سيقبل حكام سايكس- بيكو المنصّبون على أنظمة التجزئة بثورة تهدّد عروشهم وتزلزل قواعد الشعب تحت سيطرتهم؟ كان يدرك انه المستحيل ولكنه كان المغامر المبتسم والمقاتل المتفائل والثوري العنيد.



إنها فلسطين يا سيدي فأي حمل تجشمت وأي هول اقتحمت؟ إنها فلسطين تحتاج جهود طلائع الأمة كلها لترغم الغرب على الانسحاب وها آنت تجمع الأشبال والزهرات تخطب فيهم وترد على وزير خارجية بريطانيا “دلس” بأنه إذا كان الكبار يموتون فإن الصغار لن ينسوا وهاهم يتحركون نحو أهدافهم.. وها أنت تلغي المعادلة فشعبنا ليس طوابير تقف على أبواب وكالة الغوث للاجئين بل قوافل ثوار يصنعون فجر الحرية لشعبهم ووطنهم..

من أبٍ فلسطيني وعائلة عربية حسينية النسب من أبناء جعفر الصادق اطل ياسر عرفات المنخرط في الجهاد المقدس بقيادة أمير المقاومة الشهيد البطل عبد القادر الحسيني.. كان الصبي وفي عمره الغض يحمل السلاح مع خاله في عمليات الإدخال إلى فلسطين.. وبعد النكبة أكمل الشاب دراسته الهندسية وانشأ اتحاد طلبة فلسطين الذي أصبح منبرا له لشرح قضيته للوفود وفتح علاقات مع الهيئات والدول، وانخرط الشاب في معارك قناة السويس مع الفدائيين المصريين ضد الانجليز.. وأُبعِد عن مصر 1957 ليفتح شركة بالكويت ويفتح مع إخوانه المؤسسين لحركة فتح أبواب التبرعات للثورة الجزائرية ودعمها.. وكان لانتصار الثورة الجزائرية الإلهامُ الكبير في تعجيل الانطلاق بالثورة الفلسطينية، فكان الانطلاق بفتح والعاصفة بعد تفاهمات عميقة مع الرئيس الراحل هواري بومدين وقيادات الجزائر آنذاك.. كانت إجابة الجزائر بعد التفاهمات: أطلقوا الطلقة الأولى وتعالوا.. وكانت الجزائر عند وعدها وعهدها فكانت فتح.

السيد ياسر عرفات القدوة الحسيني أبو عمار طيلة أربعين عاما فتحَ كل الجبهات ضد العدو وعلَّم المنطقة كيف تقاتل ضد أمريكا والكيان الصهيوني، كان يقول: أينما تكون أمريكا أكون في الجبهة المضادَّة.. صنع لشعبه مكانا على الخريطة بعد أن كان القرار الغربي شطب فلسطين وشعبها.. لم يهادن ولم يلتزم بوقف إطلاق نار فلم يمض عليه عام دون قتال أو تفكير في قتال أو تزويد لقتال.. استخدم التكتيك القاسي خدمة للاستراتيجي الأبلج .. خاض في الوعر من الدروب ليصل إلى قمة الوضوح.. قال عن أوسلو 1993: إنه زفت الطين، ولكنه لم يستسلم له بل أدخل عشرات آلاف المقاتلين واشترى السلاح وأطلق في سبتمبر من عام 2000 أعظم انتفاضة شعبية مسلحة ضد العدو الذي حاصره وهدم المقاطعة ولم يبق إلا مكتبُه وبقي حاملا مسدسه في انتظار المواجهة الأخيرة.. عقلٌ ديناميكي فذّ ومبدع يعرف كيف يحرك الجميع ويصنع التفاؤل والفرح ويخوض لجج الحروب بروح المتفائل فكان مثير الجلبات ومسعِّر الحروب في وجه الطواغيت.. لا يعرف السكون ولا الملل عينه على السياسة وقلبه على فلسطين ويهتم بالثقافة والشعر وبالفن.. كانت فلسطين كل وجوده حتى كأنه أصبح اسما من أسمائها وكانت القدس قلبه وعشقه المشتعل.. كان ضمانة الوحدة الوطنية بين شعب يتوارث إرث النبوَّات فكان عيسى ومحمد والأنبياء عنوانه.

ناصر جنوب إفريقيا وساعدها، وناصر الثورة الإيرانية ودرَّب قادتها، واستوعب ثوار لبنان وفتح أمامهم أبواب القتال، ومد يده الداعمة للموزمبيق وإريتريا وكل مكان فيه ثورة ضد الاستعمار.. حاربه الحكام لأنه كان يعرِّيهم ولم يضع بيض الثورة في سلة أحد منهم، طاردوه وحاصروه وتعاملوا مع العدو الأمريكي والصهيوني لطرده من كل ساحات النضال لكنه لم يخطئ لحظة وظل وفيا للعروبة والإسلام.

“كان لانتصار الثورة الجزائرية الإلهامُ الكبير في تعجيل الانطلاق بالثورة الفلسطينية، فكان الانطلاق بفتح والعاصفة بعد تفاهمات عميقة مع الرئيس الراحل هواري بومدين وقيادات الجزائر آنذاك.. كانت إجابة الجزائر بعد التفاهمات: أطلقوا الطلقة الأولى وتعالوا.. وكانت الجزائر عند وعدها وعهدها فكانت فتح.” 

حاول الكثيرون جره إلى مواقفهم في صراعاتهم الداخلية فنأى بنفسه وأصر على استقلالية القرار الفلسطيني وانه يحتاج الجميعَ معه في المعركة ضد الكيان الصهيوني، فهناك من تفهمه وتركه في حرية قراره كما فعلت الجزائر ولم تشترط عليه موقفا، وهناك من حشره في الزاوية: إما.. وإما.. فكان عنيدا أن لا انتماء لي إلا لفلسطين ولا عدو لي إلا الكيان الصهيوني ومن يقف خلفه.. فدفع أثمانا باهظة ودفع الشعب الفلسطيني أثمانا عزيزة غالية.. لكنه ترك إرثا كبيرا للساسة الفلسطينيين فيما لو أحبوا السير على ذات النهج.

يدرك أن العدو لا أمان له ولا عهد وأنه محض لص بشع فكان لا يعطيه أمانا ولا يمنحه فرصة التسيُّد بل يجالده ويتصدى له كلما حانت فرصة.. لم يكن يكترث بمناصب الرجال ولا هيبتهم إن تعلق الأمر بفلسطين فلكم ردع قادة دوليين وهزَّهم بعنف مثلما فعل مع طوني بلير ومع مادلين اولبريت ومع الرئيس كلنتون.. قائلا للجميع إنها فلسطين وإنها القدس فلا محاباة ولا تجاوز في حضرتها.



وكان ياسر عرفات آبا لكل فلسطيني لا يحقد ولا يلاحق ولا يبغض ولا يقصي.. كان ينفق على كل امرأة تريد إنجابا ويدفع لكل أسرة يزيد عددها عن 12 شخصاً ويفتح الباب واسعا لكل محتاج لعلاج أو معيشة.. كان جامعا للكل الفلسطيني وموحدا للهم والهمة.

يختلف معه كثيرون في اجتهاداته التكتيكية، لكن يتفق الجميع بان الرجل صنع ثورة صعبة في مكان مستحيل وانه لم يتنازل عن أي ثابت من ثوابت الحق الفلسطيني.. وكما قال فيه جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية: “نختلف معه ولكن لا نختلف عليه”.. يتفق الجميع أنه قاتل حتى النفس الأخير.. ويتفق الجميع أنه بعد موته انفرط العقدُ الفلسطيني وتحوّلت القضية الفلسطينية إلى ملفات تناقَش على الطاولات بدل أن تكون عملا ثوريا دؤوبا.

رحم الله أبا عمار أب الوطنية الفلسطينية ورمزها وقائد ثورتها الحي في وجدان كل الأحرار.. فالشعب لم يسحب يده من يده بعد ولم يختر زعيما له بعد ولم يبدِّله.

يا سيِّد الثورة وسيِّد المقاومة: في ذكرى رحيلك شعبُك موجوعٌ حزين ومقهور ولكنه على عهد المواصلة بالكفاح وعلى قَسم الثورة حتى تحرير كل فلسطين

اخر الأخبار