التَّخَلِية قبل الْتحَّلِيةْ

تابعنا على:   02:54 2018-10-23

جمال عبد الناصر أبو نحل

لو أراد أي إنسان أن يزرع أرضاً لهُ وهوْ يّملُِكهُا، وتلك الأرض مشكلتها أنها قاحلة، صحراء، جرداء، متعرجة غير مستوية؛ فهل ينفع ان يزرعها فوراً بدون أي إصلاح لها؟ بالطبع لا فتلك تسمي "التخلية" للأرض عبر تنظيفها من كل الشوائب، والقادرات، فيقوم بتخليتها وتسويتها من الاعوجاج، وتنظيف تُربتها، ووضع تربة طينية صالحة للزراعة، وجعلها كالكف جميلة ورائعة ومتزينة لوضع البذور أو الشجر فيها لنصل لمرحلة "التحلية" لها، أي  تزينها وتجميلها عبر زراعتها بالأشجار، ومن ثم بعد فترة قطف الثمار، والسعادة برؤية الخيرات والأزهار الخ..؛ فلابد من أن تسبق التحلية، التخلية؛ والمقصود بالتخلية هو: ترقية النفس، وتزكيتها، وتطهيرها من كل الرذائل، والأخلاق الفاسدة، عبر تخليتها وذلك بالابتعاد عن الحسد، والغيبة والنميمة، والافساد بين الناس، والرياء والكبر، والغرور، والبخل، وغيرها من الرذائل الخ...؛ وأما المقصود بالتحلية: هو أن يكون الإنسان قد تحلي وتجمل بعدما قد تخلي عن كل الشوائب والمعائب؛ فأصبح متُحلي بحُلة التقوي والإيمان، والصدق، والصبر، ونقاء وطيبة وطهارةِ قلبهِ ومحباً للخير، فاعلاً للصالحات، ومؤدياً للطاعات، يتصف بالفضائل, عفيف النفس، كريماً، مقداماً ومعطاءً، مؤدباً حكيماً، ذو رجاحة عقل، وصاحب فكر مُّستنير فتلك هي التحلية بيعنها؛؛ لأن النفس البشرية أنواع منها المطمئنة فتلك النفس الحلوة المُتحلية بالطمأنينة، ومنها النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة وتحتاج، تلك الأنفس للتخلية؛؛ فما لم تكن النفس صافية جميلة كّاِلمْرآة التي ما لم تذهب الكدورات عنها لا تستعد لارتسام الصور فيها، وكالبدن ما لم تزل عنه العلة لم تتصور له أضافه الصحة، وكالثوب ما لم يُـنـَق عن الأوساخ لم يُقبل لوناً من الالوان؛ ويبقي بحاجة للتخلية، وتطهير النفس من أمراضها وأخلاقها الرذيلة ؛ والتحلية من أهم مبادئ أهل السلوك القويم العظيم الفاضل من الناس؛؛ والتحلية بتزكية النفس بالأخلاق الفاضلة كالتوحيد والإخلاص والصبر، والتوكل والإنابة، والتوبة، والشكر، والخوف والرجاء، وحسن الخلق في التعامل مع الناس، والشفقة عليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفعل الخيرات؛ قال تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيِّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم )، فأنت مخير في الوجهة التي ترتضيها لنفسك من الخير، فإذا سرت وراءها وأطلقت لها الزمام سارت بك إلى أسفل سافلين، وإن قدتها أنت للخير، وطمحت بها إلى المراتب العالية انقادت لك وراء ذلك، فهي كالطفل تماماً؛؛ "والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع،  وإن تفطمُه ينّفَطّمِ"، مثل الدابة تماماً، فالدابة إما أن تكون مطيعة وإما أن تكون شروداً حروناً، وكذلك النفس إذا عودها الإنسان على ترك هذه الأخلاق الذميمة كانت كالدابة المطيعة المنقادة، يحمل عليها ما شاء وتسير به حيث شاء، أما إذا تعودت على هذه الأخلاق الذميمة وأرخى لها الحبل على الغارب فإنها تكون شروداً حرونا إذا احتاج إليها لم يستطع إمساكها، وإذا أحست بأي حمل سيحمله عليها نفرت منه، فلا بد من مراقبة هذه النفس ومتابعتها، وليختبر متى استعدادها للأوامر وانصياعها للخير باستمرار : فإن الذي إذا سمع النداء حي على الصلاة حي على الفلاح أخذه النعاس وبحث عن الوسادة نفسه ما زالت مريضة لم تنقذ له بعد، والذي ينام على فراشه إذا تعار من الليل لم يستطع أن ينتصر على نفسه فيستيقظ ويذكر الله ويتوضأ ويصلي حتى تحل عنه عقد الشيطان، نفسه ما زالت مريضة تحتاج إلى علاج، فلا بد أن يضع الإنسان نفسه في قفص الاتهام وأن يحملها على العزائم وإلا قادته هي إلى المهالك؛ ومن هنا جاء معنى " التخلية قبل التحلية " أي أن الإنسان يجب عليه أن يُخلي نفسه أولا من الشر قبل أن يُحليها بالخير ، ولنا في آيات القرآن الكريم خير شاهد ودليل علي ذلك في قول الله سبحانهُ وتعالى: " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" هنا بدأ الله تعالى بوجوب التخلية قبل التحلية، فأمر بالتطهر من الكفر ثم أمر بالتحلي بالإيمان؛ ودليلٌ آخر في معنى شهادة التوحيد " أشهد أن لا إله إلا الله"، فهنا تقدم النفي على الإثبات- نفي أحقية الآلهة بالعبادة ، أي لا إله بالمطلق جزماً ونفياً وكفراً بكل الآلهة؛ وتوكيداً وحزماً وجزماً وحقيقةً إلا الله عز وجل وحده لا شريك لهُ أي إثبات وإفراد لله سبحانهُ وتعالي وحده بالعبودية؛ ومن التخلية قبل التحلية قوله جل جلاله:" قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ "؛ لأن أولئك الأعراب أمنوا بألسنتهم فقط!؛ ولكن قلوبهم لم تؤمن، ولازالت بحاجة للتخلية من شوائب الشرك، والتعلق بالدنيا، والهوي، واتباع الشهوات؛ فحينما تتخلون عن كل ما سبق، وتصفوا نفوسكم وتتحلي بالإيمان الخالص من قلوبكم من كل شرك وقتها تكونوا قد دخل الايمان في قلوبكم، فكم نحن العرب والمسلمين اليوم عامةً، وأهل فلسطين خاصة، بحاجة إلي التخلية والتحلية؛ لأنفسنا من أثار الانقسام الدموي البغيض، وأن نتحلى بالإيمان والرحمة والتسامح والتصافح، ومحبة بعضنا البعض، وتعزيز الثقة المفقودة فيما بيننا، والتخلي عن فكر الحزبية المقيت العقيم؛ وعلينا أن نتزين ونتجمل ونتحلى بِّحُّلّةَِ الإيمان، والحب في الله؛ وكفانا أننا تركنا عدونا، ووجهنا سهامنا لبعضنا البعض فهُنا علي بعضنا بعضاً ومن أجل ذلك أصبحنا منتقدين عند جميع الناس في العالم؛ فيا ليتنا نتخلى عن الحقد ونتحلى بالحب.

اخر الأخبار