سنديانة جبلية ارتوت من باطن الأرض

تابعنا على:   16:27 2018-07-15

بلال أحمد أبو السعيد

حمل روحه على كفه وألقى بها في مهاوي الردى ، أراد حياة تسرّ الصديق وممات يُغيظ العدى، تطلّ علينا اليوم في الثالث عشر من شهر آب، والتي توافق جمعة الوفاء للخان الأحمر، الذكرى السبعون لإستشهاد سنديانة الجبل التي ارتوت من باطن الأرض الفلسطينيىة كما وصفه الشهيد القائد مهندس يوم الأرض توفيق زياد، الفارس الشاعر المقاتل المشتبك الشهيد عبد الرحيم محمود عبد الحليم، الذي ولد عام 1913م في قرية "عنبتا" التابعة لقضاء "طولكرم" بفلسطين، ودرس المرحلة الابتدائية في عنبتا وطولكرم، ثم انتقل إلى مدينة نابلس للدراسة الثانوية بمدرسة النجاح الوطنية من عام 1928م حتى 1933م، وتتلمذ في هذه المدرسة على الشاعر إبراهيم طوقان والأساتذة د. محمد فروخ، وأنيس الخولي، وقدري طوقان.. فتشرب منهم حب المعرفة والاعتزاز بالنفس والوطن والثورة على الظلم.. وعُيِّن بعد تخرجه مدرسًا للغة العربية وآدابها في مدرسة النجاح إلى سنة 1936،في عام 1935م حضر من سوريا الشيخ عز الدين القَسَّام؛ ليشارك في الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي لفلسطين ، واعتصم بالجبل مع رفاقه من مِصْر وفلسطين، وظلوا يناوشون جنود الإنجليز وحين اسْتُشْهِد الشيخ السوري يوم 20 نوفمبر 1935م.. أصبح الشيخ عز الدين القَسَّام مثلاً أعلى للمقاومة وإرهاصًا للثورة التي بدأت بإضراب يوم 20 أبريل 1936م، فانخرط فيها الشاعر الشاب عبد الرحيم محمود ونذر نفسه للوطن، فاستقال من مدرسة النجاح وعَبَّر عن موقعه في إحدى قصائده قائلاً

قل لا واتبعها الفعال ولا تخف وانظر هنالك كيف تحني الهام

اصهر بنارك غل عنقك ينصهر فعلى الجماجم تركز الأعلام

وأقم على الأشلاء صرحك إنما من فوقه تبني العلا وتقام

إن الألى سلبوا الحقوق لئام واغصب حقوقك لا تستجدها

هذي طريقك للحياة فلا تحد قد سارها من قبلك القسام

وفي عام 1939م لم يحتمل البقاء في فلسطين تحت نير الاحتلال الإنجليزي والعصابات الصهيونية؛ فهاجر إلى العراق وظل بها ثلاث سنوات عمل خلالها مدرسًا للغة العربية، والتحق بالكلية الحربية ببغداد، وتخرج ضابطًا برتبة الملازم أيام الملك غازي بن فيصل بن الحسين، وشارك مع المجاهدين العرب في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق،ولما هدأت الأوضاع في فلسطين لانشغال إنجلترا بالحرب العالمية الثانية عاد الشهيد عبد الرحيم إلى بلده واستأنف العمل معلمًا بمدرسة النجاح الوطنية بنابلس. وبصدور قرار تقسيم فلسطين اشتعل الموقف؛ فقرَّر شاعِرُنا أن يصل إلى آخر مدى من أجل تحرير وطنه، فتوجه إلى بيروت في يناير 1948م، ثم إلى الشام ليتلَقَّى تدريبات عسكرية على القتال وانضم إلى جيش الإنقاذ، ودخل إلى منطقة بلعا بفلسطين واشترك في معركة بيار عدس مع سَرِيَّة من فوج حِطِّين، وشارك في معركة رأس العين، وفي إبريل 1948م عُيِّن آمرًا للانضباط في طولكرم، ثم مساعدًا لآمر الفوج في الناصرة.. وأخيرًا قاتل ببسالة في معركة الشجرة حتى اسْتُشْهِدَ فيها يوم 13 يوليو 1948م وعمره خمسة وثلاثون عامًا.

و(الشجرة) قرية عربية تابعة لطبرية، وقد انشأ الإسرائيليون بجوارها مستعمرة اسمها (السجرة) بالسين، وكانت منطقة ساخنة تدور فيها معارك كثيرة بين سكان الشجرة المسلمين والمسيحيين وبين اليهود بالسجرة.

ودُفِنَ عبد الرحيم محمود في (الناصرة) مُخَلِّفًا زوجته وابنيه (الطيب) و(طلالًا) وابنته رقيَّة، وأعمارهم بين الأربعة أعوام والعام الواحد..

الإجماع النقدي تمركز حول ثلاثة شعراء كبارهم: إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، حيث وُصفوا بأنهم الشعراء الأكثر أهمية، خَلَّف الشهيد عبد الرحيم محمود عددًا من القصائد كتبها بين عامي 1935م، 1948م.. جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية.. وصدر ديوانه في عَمَّان عام 1958م وهو يضم سبعًا وعشرين قصيدة.. هي أهم ما كتبه في عمره القصير المليء بالكفاح..

لقد كان مثلاً أعلى لشباب فلسطين في الكفاح والصدق..

في 14 أغسطس 1935م زار قرية عنبتا الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية (الملك سعود فيما بعد)، فألقى عبد الرحيم بين يديه قصيدة وكان عمره اثنين وعشرين عامًا قال فيها:

ضُمَّت على الشَّكوى المريرة أَضْلُعُهْ**** يا ذا الأمير أمام عَيْنِـك شاعرٌ

المَسجد الأقصى أَجِئْتَ تَزُورُه؟‍ ****** أم جئـت من قِبَلِ الضِّياع تُوَدِّعُهْ؟‍

وهنا يتضح بُعْدُ نظر الشاعر الشاب ورؤيته الواقعية للظروف العربية شعوبًا وحكامًا.

وتظل قصائد عبد الرحيم محمود تتوالى مُعَبِّرَةً عن حبه لوطنه وإصراره على التضحية من أجله، قال المؤرخ د. مصطفى كبها : إن هناك محطات مفصلية في سيرة الشاعر الشهيد، الذي نذر قصائده وروحه للدفاع عن الوطن فأسمى ديوانه "روحي على راحتي" من وحي قصيدته الشهيرة

 سأحمل روحي على راحتي . . . وألقي بها في مهاوي الردى

 فإما حياة تسّر الصديق . . . وإما ممات يغيظ العدى

 وأشار كبها إلى أن الراحل عمل مسؤولاً عن الشؤون الإعلامية وكتابة البيانات في مقر قيادة القائد عبد الرحيم الحاج محمد، القائد العسكري العام لثورة 1936- 1939،وأضاف أنه عندما شكلت الجامعة العربية جيش الإنقاذ على إثر قرار التقسيم عام 1947 انضم عبد الرحيم محمود لهذا الجيش برتبة ضابط، وكذلك تطوع لفترة ما في جيش الجهاد المقدس، وشارك في بعض المعارك في منطقة الوسط إلى جانب القائد حسن سلامة،وأوضح كبها، أن الشاعر محمود، تخرج من الكلية الحربية في بغداد برتبة ملازم سوية مع عبد القادر الحسيني، وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، في أيار 1941.

الشاعر والمقاتل عبد الرحيم محمود، سيبقى رمزا للقضية الفلسطينية وللتاريخ الذي سجله مع رفاق دربه في المقاومة، من اجل الحفاظ على الوطن والدفاع عن قضيته ،اسماه القائد والشاعر، توفيق زياد، طيب الذكر "سنديانة جبلية ارتوت من بطن الأرض". وكتب فيه موضحا علاقته بالناصرة: " بين عنبتا والناصرة حبل وريد وصلة رحم. هناك في عنبتا اخرجته يد الى الحياة، وهنا في الناصرة يد غيبته ثرى الوطن الغالي. هناك احتضنوه طفلا وفتى وهنا نحتضنه شهيدا وقضية. الناصرة بعد النكبة ظلت قلب معركة ونبض شعب وقلعة حرية لا يغلبها غلاب، وسيبقى شعبنا منتصب القامة، مرفوع الهامة، شعبا موحدا وجذورنا عميقة في تراب وطننا الغالي، نصون ضريح عبد الرحيم محمود، الشاعر الفارس واضرحة الشهداء جميعا ونرفع عاليا مشعل الحرية والسلام والمساواة والمستقبل المشرق، ونواصل مسيرتنا حاملين روحنا على راحتنا ودمنا على كفنا

اخر الأخبار