السياسة مؤجلة إلى ما بعد الرئاسة

تابعنا على:   11:56 2014-04-16

فهمي هويدي

لماذا لا نأخذ بيان «الإخوان» بخصوص العنف على محمل الجد، ليس فقط لكي نختبر صدقيته، ولكن أيضاً لكي نبحث عن مخرج للأزمة السياسية في مصر؟
(1)
لا يقولنَّ أحد إنه لا توجد أزمة، أو أن ملف «الإخوان» أغلق ولم يعد يحتمل مزيد كلام. وهو ادّعاء لا يمكن قبوله إلا إذا اتفقنا على الاستسلام للغيبوبة، وقررنا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، لكي لا نرى أو نسمع شيئاَ مما حولنا. ولكي نوهم أنفسنا بأن كل شيء على ما يرام وأن الدنيا ربيع والجو بديع، الأمر الذي يدعونا إلى إقفال المواضيع كلها، كما تقول كلمات الراحل صلاح جاهين في الأغنية المشهورة. أما إذا أفقنا وخرجنا من حالة الإنكار فسنجد أن ثمة حقائق مدبَّبة في واقعنا السياسي يتعين التعامل معها، قبل أن تتحول من جراح يمكن علاجها إلى عاهات وعقد تعوق مسيرتنا، ويستعصي البراء منها.
أذكِّر فقط بأن المجتمع المصري أصبح منقسماً بصورة حادة لم يشهدها في تاريخه المعاصر، وأن الاستقطاب مع ما استصحبه من تجاذب وكراهية متبادلة لم يعد مقصوراً على النخب السياسية، وإنما وصل إلى عمق المجتمع في قراه ونجوعه، الأمر الذي أزعم أنه بات يهدد استمرار التعايش أو يخدم السلم الأهلي. أذكِّر أيضاً بأن مخططات الإرهاب لم تتوقف. وإذا كنا قد سمعنا عن عمليات لـ«أنصار بيت المقدس» وأخرى لمن وصفوا أنفسهم بأنهم «أجناد مصر»، فالله وحده يعلم ما هي خطواتهم القادمة، وما إذا كانت هناك منظمات أخرى بصدد الظهور أم لا. وينبغي أن يستوقفنا استمرار التظاهرات طوال الأشهر التسعة الماضية، وهو أمر غير مألوف، واشتداد تلك المظاهرات في الجامعات على نحو دعا أحد كبار مثقفينا، الأستاذ بهاء طاهر، إلى اقتراح تعطيل الدراسة في الجامعات لمدة سنتين. أضف إلى القائمة التركة الثقيلة المتمثلة في استمرار اعتقال نحو 25 ألف شخص من مختلف الاتجاهات السياسية، غير 16 ألف مصاب على الأقل، ثم تقديم أكثر من ألفين إلى المحاكمات في قضايا يعلم الجميع كيف رُتبت ولفقت. ثم إن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل أو ينسى ملف الذين قتلوا خلال الأشهر الأخيرة، وعددهم تجاوز ثلاثة آلاف حسب تقرير بعض المصادر المستقلة (موقع «ويكي ثورة» حصر 3248 شخصاً قتلوا في الفترة من 3/7/2013 وحتى 31/4/2014) ــ هل بوسع أحد بعد ذلك أن يدّعي بأنه لا توجد أزمة سياسية في مصر؟ أما القول بأن ملف «الإخوان» أغلق «إلى الأبد» وانهم لم يخرجوا من السياسة فحسب، وإنما خرجوا من التاريخ أيضاً، فهو ادّعاء يذكرنا بشعار «الحل النهائي» أو الأخير الذي رفعه النازيون في ألمانيا في أربعينيات القرن الماضي. وبمقتضاه دعا القادة النازيون إلى تطهير ألمانيا وأوروبا كلها من اليهود. وأعدّوا لذلك (في العام 1942) ستة معتقلات في بولندا لاستقبالهم، تمهيداً للخلاص منهم. صحيح أن ثمة فرقاً بين إبادة جماعة بشرية، كما هو الحال في نموذج اليهود، وبين تطبيق «الحل الأخير» على «الإخوان»، لكنني أزعم أن ذلك الفرق لمصلحة ما أدعو إليه، باعتبار أن إبادة البشر قد تكون ممكنة. لكن الأفكار يتعذر إبادتها بقرار تصدره السلطة مهما كان جبروتها، ذلك أن الأفكار لا تقتل بفعل فاعل، وإنما قد تموت بفعل الزمن، إذا شاخت وتآكلت ونضب معينها، وتاريخ المسلمين حافل بما لا حصر له من الفرق والملل والنحل، لكننا لا نعرف فكرة قتلتها سلطة، وإن عرفنا العديد من الفرق، التي بادت بفعل الزمن. وليس بعيداً عنا ما فعله الرئيس السابق حافظ الأسد الذي أصدر قانوناً في العام 1982 قضى بإعدام كل من تثبت عضويته في جماعة «الإخوان»، لكن ذلك لم يستأصل الجماعة التي هي الآن عضو مهم ونشط في «الائتلاف» السوري. وقد حذا معمر القذافي حذوه، وكانت النتيجة مماثلة لما انتهى إليه الأمر في سوريا، حيث هم الآن شركاء في «المؤتمر الوطني الليبي».
(2)
حين ظهرت في أنحاء مصر بعض عمليات العنف النوعية، التي كان واضحاً فيها أنها ليست من فعل الهواة، كتبت مقالا في 25/3 كان عنوانه: ليحسم الإخوان موقفهم من العنف والإرهاب. وكان من العوامل الأخرى التي دفعتني إلى ذلك أن المتحدث العسكري المصري ومختلف المنابر الإعلامية، أشاروا بأصابع الاتهام في العمليات الكبيرة التي تمت إلى جماعة «الإخوان»، في حين أعلنت جماعة «أنصار بيت المقدس» و«أجناد مصر» عن أنها المسؤولة عن تلك العمليات. وقد طالبت في مقالتي قيادات «الإخوان» بإصدار بيان يرفض العنف ويدين ممارساته، ويتبرأ من الأصوات الداعية إليه في داخل مصر وخارجها. كما يؤكد على مواصلة النضال السلمي لاستعادة المسار الديموقراطي وتحقيق أهداف الثورة، وتمنيت أن يؤكد الإعلان ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة ويدين أي اعتداء على القوات المسلحة والشرطة.
تعددت أصداء المقالة، بين تأييد وتحفظ وتنديد، ولكن أهم الأصداء كان ذلك البيان الذي أصدره في الثامن من نيسان الحالي الدكتور محمود حسين الأمين العام للجماعة، الذي ذكر فيه أن منهج الجماعة في الإصلاح يقوم على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن أعضاءها تعرضوا للتعذيب الوحشي في السجون والمعتقلات في عامي 1954 و1965، لكنهم لم يحيدوا عن موقفهم الإصلاحي. ولكي يؤكد ذلك فإنه استدعى عدة شهادات هي: تصريح للرئيس الأسبق حسني مبارك أثناء زيارته فرنسا العام 1993 لجريدة «لوموند» الفرنسية، ونشرته عنه جريدة «الأهرام» في 1/11/1993، قال فيه ما يلي: «في مصر حركة سياسية تفضل النضال السياسي على العنف. وقد دخلت عناصر الحركة في بعض المؤسسات الاجتماعية واستطاعوا النجاح في انتخابات النقابات المهنية مثل الأطباء والمهندسين».
ـ تصريح وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن الألفي في المؤتمر الصحافي الذي نشرت وقائعه في 14/4/1994 وأبرزته صحيفتا الأهرام والجمهورية آنذاك. إذ حين سئل عن علاقة «الإخوان» بتنظيم «الجهاد» أو «الجماعة الإسلامية» (اللذين مارسا العنف آنذاك)، فكان رده: «الإخوان» جماعة لا يرتكب أفرادها أعمال عنف، بعكس تلك التنظيمات الإرهابية.
ـ تصريح أدلى به خبير الإرهاب الدولي بالأمم المتحدة اللواء أحمد جلال عزالدين لجريدة «الأنباء» الكويتية في 14/8/1994، وفيه قرر: إن «الإخوان» حركة دينية سياسية ليس لها صلة بالإرهاب والتطرف.. وهم في نظر عدد كبير من تنظيمات العنف يُعتبَرون متخاذلين وموالين للسلطة ومتصالحين معها.
(3)
لم يخضع البيان لأي تحليل أو مناقشة جادة في ما هو معلن على الأقل، رغم أهمية مضمونه ومصدره. وما حدث أن الإعلام تجاهله. ولم تشر إليه بعض الصحف (الأهرام والمصري اليوم). أما الصحف التي نوهت به فقد كانت عناوينها كالتالي: «الشروق» في 10/4 «الإخوان» تتبرأ من الدم الحرام ومصدر حكومي: «إخوان» كاذبون ـ أمين عام الإخوان: من يمارس العنف ليسوا منا ولسنا منهم ونستنكر كل أشكال ومصادر الإرهاب ـ الإخوان تتجمل بنبذ العنف والإرهاب ـ شباب الجماعة ينقسمون ـ مصدر حكومي البيان مراوغات إخوانية والأمن: مبادراتها لوقف العنف كاذبة ــ سياسيون بيانات ادّعاء السلمية لن تغسل سمعة «الإخوان».
عناوين جريدة «الوطن» التي صدرت في اليوم ذاته (10/4) كانت كالتالي: تنظيم «الإخوان» يتصدع: محمود حسين يتبرأ من العنف ويؤكد الالتزام والقانون.
خلاصة الأصداء أن الرسالة رفضت من جانب المؤسسة الأمنية وعناصر النخب المتحالفة مع النظام القائم. ولست واثقاً من أنها مصادفة، أن يصدر رئيس الوزراء في اليوم التالي مباشرة (10/4) قراره بتنفيذ حكم محكمة القاهرة للأمور المستعجلة باعتبار الجماعة منظمة إرهابية وتطبيق قانون الإرهاب على المنتسبين إليها والمروجين لها.
إذا جاز لي أن أترجم تلك الأصداء فإنني أراها ملتزمة بموقف إغلاق الأبواب ومن ثم إقامة الجدران وليس مد الجسور. وأكاد أرى خيطاً يشدها نحو «الحل النهائي» الذي تبنته السلطة النازية في ألمانيا، على الأقل من زاوية الانطلاق من فكرة الاقتلاع والاستئصال.
(4)
لأن مستقبل الوطن ومصير الثورة أهم عندي من مصير الجماعة، فإن السؤال الذي ينبغي أن يشغل الجميع هو: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر سياسة «الحل النهائي» على استقرار الوطن وتحقيق السلم الأهلي فيه بما يصحح مسار الثورة ويسترد روحها؟ ردي الفوري أنه بعد تجربة الأشهر التسعة الماضية فإن تحقيق ذلك الأمل مشكوك فيه، لأن أحداً لا يستطيع أن يرجح إمكانية تحقيق الاستقرار والسلم في مصر، في الأجل المنظور على الأقل، ما دامت السياسة الأمنية الراهنة على حالها.
أزعم في هذا الصدد أنه لا مجال للحديث عن السياسة في التعامل مع الأزمة قبل الانتخابات الرئاسية وربما البرلمانية أيضا، الأمر الذي يعني أن الاحتقان سوف يستمر حتى نهاية العام الحالي تقريباً. بالتالي فالمرجح أن نظل منشغلين طوال الأشهر المقبلة بالتظاهرات والمحاكمات وبملاحقة شباب الثورة المصرِّين على استعادتها وتحدي قانون التظاهر. وليس لدي تقدير للمزاج الشعبي في الفترة المقبلة، خصوصاً في ظل الحديث عن الأزمات المتوقعة، مثلا فيما خص تفاقم ظاهرة الغلاء وانقطاع التيار الكهربائي خلال أشهر الصيف.
لذلك فإن بيان الأمين العام للجماعة يغدو إبراءً للذمة وليس إسهاماً في انفراج الأزمة، وخطاباً موجهاً إلى التاريخ ولا محل له في حسابات الحاضر، وهو رهان أتمنى أن أخسره وتقدير يسرني أن يخيب.

عن الشروق المصرية

اخر الأخبار