نقض إرث الإحلال التوراتي مهمة راهنة ودائمة

تابعنا على:   15:06 2016-10-27

ماجد الشّيخ

قرار المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) الأخير في شأن مدينة القدس، وإن لم يكن فيه من جديد مواقف تلك المنظمة، تجاه الاحتلال الإسرائيلي للمدينة، فهو قرار يضاف ويراكم شاهدا آخر من شواهد فضح الأضاليل والمزاعم التلمودية والتوراتية التي صادقت عليها الصهيونية السياسية، وهي التي على أساسها قامت دولة الكيان، وزودت بكل الركائز النظرية والعملية، كي يجري سلب الحق الفلسطيني من أصحابه، وارتكاب الجرائم والمذابح وسلسلة من حملات التطهير العرقي الجارية حتى اليوم، بحقهم وحق أحفادهم وأجيالهم الجديدة، من دون أن يرف للعالم جفنا، وهو الذي ما فتئ يغمض عينيه عن الجرائم المتواصلة، وفي ظلها ترتكب جرائم تزوير تاريخانية في حق تاريخ لم يفت عليه الكثير بعد، لينسى أو ليجري نسيانه، للافلات من جريمة ستبقى تطارد أصحابها، حتى يعود الحق الفلسطيني إلى أصحابه الأصلانيين الشرعيين.

وإذا كان لنتنياهو وهو يعلق على قرار اليونيسكو، أن يكون "واثقا من أن الحقيقة والتاريخ أقوى، وأن الحقيقة ستنتصر"، فإن شرعية القوة والحق أقوى من باطل القوة وشريعتها الباطشة العمياء. وفي النهاية فإن حقيقة الوقائع التاريخية سوف لن تخضع لأباطيل المزاعم التلمودية والتوراتية، وستنتصر للحق التاريخي غير القابل للتعديل أو المساومة.

وعلى ذلك... ففي يوم من الأيام، كان قد شهد "شاهد من أهلهم"، في خطوة جريئة قل نظيرها – على الأقل حتى الآن – فقد ذهب نص مقال عالم الآثار الاسرائيلي "زئيف هيرتسوج" ليؤكد "أنه بعد 70 عاماً من الحفريات المكثفة توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الاطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط إلى مصر ولم نصعد من هناك، لم نحتل البلاد (فلسطين) ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن، أما المجتمع (الاسرائيلي) فلا".

وفي ذات الاتجاه، كان قد ذهب (كيث وإيتلام) أستاذ الدراسات الدينية، ورئيس القسم بجامعة إستيرلنج, في مؤلفه الرائع "إختلاق إسرائيل القديمة"، وقد تحمل مشقة كهذه في فضح القائمين على الدراسات التوراتية والباحثين المصدقين لوجود "إسرائيل القديمة"، فقد لاجظ أنه "وعلى الرغم من وجود مفاهيم تاريخية قومية مهمة في البلدان الحديثة المختلفة في الشرق الأوسط، وهذه المفاهيم توفر فهماً مقابلاً وأساسياً للمفاهيم الغربية وتمثلها لتاريخ المنطقة، فإن ما يلفت الانتباه هو غياب تاريخ فلسطيني للماضي، أي تاريخ مكتوب من منظور فلسطيني".

 ولهذا فهو يؤكد على أن الصراع حول الماضي، إنما هو دائماً صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر, ومعه يذهب د.جورجي كنعان في مؤلفاته، للمطابقة بين مزاعم الزعماء الصهاينة والمؤرخين التوراتيين في تركيبهم لتاريخ دولة إختلقوها هي "إسرائيل القديمة".

ومن البداهة أن يكون التاريخ الذي ركّبوه لهذه الدولة التي إختلقوها (في الماضي) هو القاعدة التاريخية للحركة الصهيونية (في الحاضر) ووفق كنعان فهم "بإختصار إختلقوا أو إبتدعوا أو إخترعوا (مملكة قديمة) وركّبوا تاريخاً لتلك المملكة، على إعتبار أن المملكة المختلقة، والتاريخ المركب لها، هما وحدهما اللذان يبرران الحق في إمتلاك أرض فلسطين، وإعادة بناء دولة يهودية تكون إمتداداً أو إستمراراً للدولة اليهودية القديمة".

وهذا تحديداً ما دفع د.كنعان لأن يكون قاسياً جداً بحق أولئك الذين فتنوا لا بإسرائيل، ولكن بالأسس الزائفة والعنصرية التي قامت عليها، ويجري تبرير قيامها على ذات الأسس، ليس إستناداً إلى نفي التاريخ، بل والتدخل في كتابته زوراً وبهتاناً، بما أضفى ويضفي مسحة، بل مسحات من خرافات التورية التاريخانية، وهي تمضي بعملية تصديق ما لا يصدّق، ولا يمكن القبول به عقلياً ومنطقياً من سيل تلك التلفيقات التي أضفت على "إسرائيل التوراتية" تبريرات الوجود في الماضي من أجل القبول بها "دولة واقعية" في الحاضر، دولة للعنصرية الصهيونية السياسية واللاهوتية، وهي التي لم تستطع رغم مرور أكثر من 68 عاما على إقامتها، ومرور ما يقارب 50 عاماً على إحتلال البقية الباقية من فلسطين أن تعثر على أي لقية من اللقى التاريخية التي تثبت مزاعم توراتها وتزييفاتها التاريخانية، لا في شأن الاشخاص ولا في شأن المواقع ولا الأحداث المسرودة عن تلك الحقب التي لم تكن ذات طابع "إسرائيلي" بالمطلق، قدر ما تثبت النصوص والنقوش والآثار التاريخية أن هذه الحقب إنما عبقت على الدوام برائحة عربية كنعانية، ولكن للأسف لم يستطع الكنعانيون ولا الفلسطينيون فيما بعد أن يحتلوا مسرح الرواية التاريخية، أو أن يحرروا التاريخ أو يستعيدوه من كل مجالات الهيمنة والسيطرة عليه.

استنادا إلى هذه الخلفية، سعت حكومات الاحتلال على امتداد أزمان تكويناتها، كما تسعى حكومة الائتلاف اليميني المتطرف الحالية، وعبر "برنامجها الملزم"، إلى ممارسة أقصى محاولات تغيير المعالم الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، وطمس كل ما يدل على الآثار العربية المؤكدة فيها، في ظل غياب أي أثر تاريخي في باطنها، مزعوم ومتوهم؛ للقبائل اليهودية التي عبرت أو كانت تترحّل في إطار المنطقة، وذلك بشهادة علماء آثار إسرائيليين، وغربيين من قبلهم؛ يشهد لهم ولكفاءتهم العلمية، باتوا يؤكدون أنهم لم يعثروا على ما يثبت يهودية المدينة في أي وقت من التاريخ، في ظل غياب أيّ آثار أو لقى تاريخية يمكنها أن تثبت أنها كانت يوما ما يهودية، من قبيل ما تزعمه الخرافات التوراتية عن مملكة سليمان أو اصطبلات داوود، وما يُنسب إليهما ولأمثالهما من آثار ومخلفات لم توجد قط، إلى درجة التشكيك بوجود أسماء كهذه وُجدت وعاشت تاريخيا على مسرح المنطقة القديم. وبحسب مجلة تايم الأميركية (1/2/2010) التي قابلت مجموعة من علماء الآثار الإسرائيليين، فإن الهدف من كامل الحفريات التي تمت وتتم هو طرد الفلسطينيين من المدينة؛ تهويدها وأسرلتها وإخراجها من نطاق تاريخها الحقيقي.

وفي الوقت الحالي تظهر الحرب المعلنة من جانب حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة على القدس ومواطنيها الفلسطينيين، أن الهدف منها اليوم، بات يتكشّف عن نكبة جديدة توازي في مفاعيلها الحاضرة والغائبة، مفاعيل نكبة العام 1948، فهذه الحرب الهادفة إلى اقتلاع وتشريد المزيد من مواطني المدينة، وإحداث اختلال وتفريغ ديموغرافي لمصلحة الإسرائيليين، هي حرب متواصلة منذ استكمال احتلال القدس عام 1967، وقد أفاد تقرير فلسطيني حديث أن عدد المنازل التي هدمتها سلطات الاحتلال منذ ذلك التاريخ بلغ حوالي الثلاثين ألف منزل، بما فيها قرى هُدمت مع قدوم الاحتلال، يُضاف إليها آلاف قرارات الهدم والإخلاء.

وفي الآونة الأخيرة، كما وعلى مدى أعوام، استمرت وتستمر حكومة الاحتلال في تكثّيف أعمالها الهادفة إلى تهويد القدس، وتفريغها ديموغرافيا من أصحابها الفلسطينيين وإقامة منشآت ذات صبغة يهودية، مثل إقامة "كنيس الخراب" واستهداف المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والبلدة القديمة. حيث تراهن حكومة الاحتلال على تمهيد الأرض أمام إفقاد القدس الشرقية كينونتها العربية، بهدف إنجاز عملية ابتلاعها وضمها إلى القدس الغربية، في محاولة للزعم أنها "العاصمة الأبدية لدولة يهودية" هي كيان إسرائيل الاحتلالي، القائم اليوم على أرض الفلسطينيين ووطنهم التاريخي.

وبهذا تكون إسرائيل قد سعت وتسعى عمليا، إلى تنفيذ ما يسمى مخطط 2020، الذي هو عبارة عن مشروع يهدف إلى جانب مخططات إقليمية أخرى، إلى إقامة القدس الكبرى، وتكريس شعار "القدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل"! وإلى تهويد المدينة بكاملها من طريق ضم مستوطنات إلى مناطق نفوذها وتقليل أعداد الفلسطينيين فيها.

علاوة على ذلك تسعى حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، القائمة اليوم في إسرائيل، لضم مستوطنة معاليه أدوميم، كبرى المستوطنات في الضفة الغربية إلى القدس المحتلة، حتى قبل إقامتها، وذلك بهدف تقطيع أوصال الضفة الغربية، وإفقاد الدولة الفلسطينية المفترضة، المزيد من تواصلها حتى بين مدن وقرى ومخيمات الضفة ذاتها. ووفق تقرير أعدته جمعية "بمكوم" ومنظمة "بيتسيلم" فإن إسرائيل صادرت 32 ألف دونم لإقامة هذه المستوطنة، حيث يجري العمل على تحويلها إلى مدينة تقطع التواصل الجغرافي بين وسط الضفة وجنوبها، للحؤول دون إقامة دولة فلسطينية في المستقبل.

ومهما يكن قرار اليونيسكو، فهو إلى جانب كونه إدانة كاملة للاحتلال وممارساته في المدينة، فهو مؤشر إلى ما يمكن البناء عليه من كشف لمخططات التهويد والأسرلة التي تتبناها حكومات الاحتلال، وتمضي إلى تنفيذها غير عابئة بمواقف دولية ما زالت عاجزة عن وقف مظالم الاحتلال، وحماية تراث وإرث مدينة مقدسة ومساكن وممتلكات أصحابها الشرعيين، بل يمضي الإسرائيليون اليوم في عملية ضم وإلحاق وحفر في باطن الأرض وإجراء تغييرات جغرافية وديموغرافية، لعل وعسى تكون السيادة كاملة ومطلقة يوما، لكن هبات وانتفاضات المقدسيين وإخوانهم من الفلسطينيين على جانبي ما يسمى "الخط الأخضر"، أي على امتداد أرض الوطن الفلسطيني التاريخية ستبقى شواهد ثابتة تناطح مخارز الاحتلال، في سجل لا يمحى من سجلات تاريخ شعب يقاوم.

بالأخير وكما لاحظ إدوارد سعيد، فإذا كان الاستشراق هو مؤسسة عملية قام بواسطتها الباحثون والمهتمون بالشرق، بإيجاد تاريخ يتوافق مع مخططاتهم الاستعمارية، وأيضا مع تحيّزاتهم الثقافية والدينية، فهكذا فعل توراتيو الأزمنة الغابرة، ويفعل الآن توراتيو الأزمنة الحديثة في نظرتهم إلى الوطن الفلسطيني والشرق بعامة. فبأي أدوات نواجه ونقاوم، وبأيها ننقض هذا التراث الذي يحاول أن يكون إحلاليا بشكل متكامل في وجهنا؛ نحن أصحاب الأرض؟.

اخر الأخبار