قصة قصيرة : عندما غاب القمر !! ( د. عبد القادر فارس)

تابعنا على:   01:39 2016-09-30

كانت " قمر" تُعد العشاء على ضوء الشموع , ليس رومانسية فقط - ولكن لانقطاع الكهرباء المتواصل الذي تعاني منه غزة منذ سنين - لاستقبال الحبيب العائد بعد طول غياب , حيث كان يخشى الحضور , ولا يستطيع بعد ذلك السفر , بسبب الاغلاق المستمر للمعابر , قبل أن يكمل دراسته العليا, ولذلك كان صبرها مكرهة على هذا الغياب الذي طال .

كان غيابه مرهقا لها , تملؤه الوحشة , وألم الفراق , كيف لا وهي الوحيدة الغريبة في المدينة , التي غاب عنها قمرها , لما يقارب الثلاثة أعوام , عندما سافر لاستكمال دراساته العليا في يلد أجنبي بعيد , وعلى الرغم من أن وسائل الاتصال الحديثة لم تشعرها بغربة أيام زمان , عندما كانت رسائل البريد هي الوحيدة التي يتلقفها المقيم من المسافر , إلا أن لهفة اللقاء الحقيقي والحميمي الذي تنتظره وتتمناه , هو الذي تحلم به في ليلها , وتنتظره في نهارها , فهي ما زالت عروسا في سنوات زواجها الأولى , وقد سافر الحبيب بعد أشهر قليلة من زواجهما , دون أن يكتب لهما الانجاب , وبذلك لم تجد من يملأ عليها هذا الغياب بطفل يمكن أن يسليها , أو ينسيها ما هي فيه من وحدة .

وعندما أخبرها أنه عائد مساء ذلك اليوم من صيف حار ولاهب , ازداد الجسد المحروم من حنان الاحتضان التهابا , تزينت بأجمل الملابس , وتعطرت بأرقى أنواع العطور , التي كان قد أهداها لها في فترة الخطوبة , التي كانت من أحلى الأيام التي قضتها معه .. عادت بها الذكرى لأول لقاء بينهما عندما كانا زميلين في الجامعة , هو القادم من غزة إلى الضفة الغربية , وهي القادمة من إحدى القرى في منطقة رام الله , تلاقت عيناهما ودق القلبان على نغمة واحدة , لازالت تشعر بها كلما اقترب موعد اللقاء من جديد , وكيف تطورت تلك النظرات من اعجاب , إلى حب جارف , انتهى مع انتهاء العام الأخير من دراستهما الجامعية بالخطبة والزواج , لكن طموحه لمزيد من العلم أبعده عنها .

- ليته لم يسافر , إني احتاجه بجانبي , ما زلت لم أشبع منه , لم أرو ظمأي بعد !!

- هل هو كذلك يفكر مثلي , متى يعود ليطفئ هذا الظمأ , ويروى هذا الجسد الغض البكر , الذي يحتاج الدفء في برد الشتاء , وليبرد حرارته في أيام الصيف الملتهبة ؟!.

لم تكن الشموع التي أشعلتها هي التي تضيئ البيت في انتظار الحبيب العائد فقط , بل إن انتصاف الشهر القمري , جعل ضياء القمر المكتمل , أكثر جمالا وبهاء لهذه الليلة , التي تنتظر أن يطل فيها قمر لآخر , قمر يخصها وحدها .. أخبرها أنه قادم في الطريق إليها , بعد أن أعلن عن فتح المعبر .. طالت الرحلة , فالطرق شاق وطويل , انقطع الارسال الهاتفي بينهما , عللت السبب بأنه قد يكون في منطقة ليس بها ارسال , ظلت تنتظر في ليلتها تلك , حتى ذابت الشموع , وغاب القمر , ساعات الفجر تقترب , والشمس تقترب من البزوغ , فهل سيشرق مع شروق الشمس في هذا الصباح .. مرت الساعات ثقيلة في انتظار الوصول ... عند الظهيرة رن هاتفها الجوال:

-        هل أنت السيدة قمر ؟.

-        نعم من المتصل ؟!

-        يؤسفنا سيدتي ابلاغك أن حادثة وقعت لسيارة أجرة كان يستقلها زوجك في الطريق , وكانت اصابته خطيرة , وقد توفي منذ ساعة !!

سقط الجوال من يدها المرتجفة , وقد بدأت تصرخ من هول المفاجأة : لقد غاب القمر .. لقد غاب القمر , واخذت تهذي : وهل القمر يطلع في الظهيرة ؟!.. طبعا غاب القمر , فأنا سهرت معه الليلة الماضية حتى غاب ... ألقت بجسدها الذي لم يعد يحملها على أقرب أريكة , ودخلت قمر في غيبوبة لم تفق منها , على أمل أن يطل القمر من جديد , ليوقظها من غيبوبتها , لكن قمرها غاب إلى الأبد , وما زالت قمر في غيبوبتها على سرير وحيدة في غرفة بمستشفى الشفاء , لا يصلها ضوء القمر , في انتظار عودة طلة القمر , أو في انتظار الغياب الاخير !! .

اخر الأخبار