القدس إسلامية عربية

تابعنا على:   17:12 2016-08-26

د. خالد عبداللطيف

مما لا شك فيه أنه منذ خمسة آلاف سنة دخل العرب فلسطين، فمنذ الهجرة السامية الأولى القادمة من الجزيرة العربية، والعرب يعيشون في فلسطين يتنقلون من طور حضاري إلى طور آخر، ومن دولة إلى دولة أخرى، وفيهم عرب فينيقيون في الدولة الفينيقية، وفيهم عرب كنعانيون في الدولة الكنعانية، وتدل المخطوطات الإفريقية التي عثر عليها في الأردن أن أغلبية السكان في زمن الرومان كانوا عربًا، وقد أنشؤوا في القرن الرابع الميلادي مملكة الأنباط في جنوب فلسطين.

أما الإسلام، فهو الذي دخل فلسطين عام 636م تقريبًا (15 هـ تحديدًا)، والإسلام عندما جاء لم يأت بناءً جديدًا يهدِم الأبنية القديمة بالجملة، وإنما جاء إصلاحًا وتكميلًا وتصحيحًا؛ حيث يعد الإسلام الأنبياء جميعًا أصحاب رسالة واحدة، قوامها توحيد الله، وعبادته حق عبادته، وإقامة حياة الناس على الحق والعدل والخير، وحيث يعد الإسلام نفسه أيضًا دين كل الأنبياء، فكل الأنبياء كانوا مسلمين ودعاة إسلام؛ ﴿ مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرَانِيًّا ولَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾، ﴿ ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ إلَهًا واحِدًا ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

ومن هنا جاء دخول الإسلام إلى بيت المقدس دخولاً طبيعيًّا بالنسبة للوجود العربي الثابت في فلسطين، ودخولاً طبيعيًّا بالنسبة لمعنى الإسلام ورسالة الإسلام.

وفي ضوء هذه المعاني جاء عمر إلى بيت المقدس خاشعًا متبتِّلاً مستجيبًا لرغبة المهزومين في القدس، حين شرطوا أن يحضر الخليفة بنفسه، ومعطيًا لهم الوثيقة العمرية أو العهدة العمرية التي تعد بكل مفرداتها من أعظم وثائق الفتوحات في التاريخ كله.

إن المؤرخ (رابوبوت) يصف مقدم عمر إلى القدس وصفًا رائعًا يجسد لنا المعاني التي ألمحنا إليها يقول:

"أما سكان أورشليم الذين اعتادوا أن يروا الأباطرة البيزنطيين في أُبَّهتهم وأَرْدِيتهم المطرزة بالذهب، فقد كان مرآهم للخليفة مشهدًا رائعًا، ذلك أن خليفة النبي كان يرتدي بُردة رَثَّة من وبر الإبل، وقد اخترق أورشليم على بعير يحمل كل أَمتِعته، وما يكفيه من تمر ليوم واحد، فكان هذا التناقض بين بساطة المنتصر وتقشُّفه، وبين الهوس الباذخ الذي تعود على الظهور به، ليس الأباطرة البيزنطيون وحسب، بل ممثلوهم من ولاة الأقاليم.

كان هذا التناقض مذهلاً لم يَلبث أن أحدث تأثيره العميق في شعب حانق على حكومة كانت في نظره استبدادية جشعة.

وبمقتضى الوثيقة العمرية أعلن السِّلم العام والأمن العام للأشخاص والأموال والعبادات، وللعباد في أَدْيِرتهم وكنائسهم، وهنا أيضًا يشهد رابوبورت وهو يكتب في مؤلفه "تاريخ فلسطين" من وجهة النظر اليهودية: "يجب أن نعترف بأن إعلانًا كهذا في بداية القرن الوسيط (قد التزمت به كل الجيوش الإسلامية بعامة)، هو إعلان حافل بالإنصاف، فهو يتنفس عدالة وتسامُحًا، وما استطاع أباطرة بيزنطة ولا أساقفة الكنيسة، أن يعبروا مطلقًا عن مشاعر من هذا القبيل باسم ذلك الذي دعاهم إلى دين الحب.

ومنذ الفتح، وما تبِعه من سلام وأمان وعدلٍ وإنصاف، بدأت الخطوات الإسلامية العملية لتحضير القدس وفلسطين وتعميرها، وإزالة آثار الظلم الروماني منهما، وكان الخليفة عمر بن الخطاب أول من بدأ تحضير بيت المقدس، ونشر الإسلام وتعليم العربية بها، وقد أقام - رضي الله عنه - الدواوين، وقام بتقسيم البلاد إداريًّا، وترتيب البريد وإنشاء الحِسبة، وصك النقود النُّحاسية وعلى أحد وجهيها عبارة (محمد رسول الله)، ورسم سيف وعلى وجهها الآخر: (إيلياء) و(فلسطين)، وحرف (ميم) والهلال.

وقد أُقيمت في فلسطين الطرق الجديدة؛ مثل: طريق القدس - أريحا، وطريق القدس - الرملة، وانتشرت المساجد والمدارس التي كانت تعكس على مرِّ العهود الإسلامية مدى الرعاية والعناية التي حظِيت بها فلسطين.

ونحن نرى هذا الاهتمام بشكل واضح في تاريخ المساجد في القدس؛ حيث تقترن به أسماء الخلفاء والولاة والسلاطين عهدًا بعد عهدٍ؛ من عبدالملك بن مروان وابنه الوليد، إلى الخليفة المنصور العباسي، إلى الملك الظاهر الفاطمي، إلى صلاح الدين الأيوبي الذي طهَّر المسجد الأقصى بعد أن حوَّله الصليبيون إلى كنيسة وإصطبل، وطهَّر مسجد الصخرة الذي جعلوه مذبحًا لهيكل الرب المقدس، ثم إلى السلطان قلاوون وقنصوى الغوري، وسليمان القانوني، وعبدالحميد الثاني العثماني، حتى تصل القائمة التاريخية الإسلامية إلى الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين.

وتتكرر هذه الصورة باستعراض تاريخ المدارس ودور تعليم القرآن والحديث، حتى إنه كان في بيت المقدس وحدها قبل عدة قرون (240) مسجدًا، (10) دور لتعليم القرآن (7) لتعليم الحديث، (20) مدرسة، (70) زاوية للتعليم والعديد من الأسواق؛ كما يروي الرحالة التركي "أوليا تشلبي".

وشهدت فلسطين في العهد العثماني عناية خاصة، بدأت بسليم الأول المتوفي (1520م - 926هـ) الذي أمر بتجديد بناء السور وسليمان القانوني المتوفي (1566م - 974هـ) الذي أقام الطريق وصك "الفضة العثمانية"، وامتدت إلى السلطان مراد الذي عمل على استتباب الأمن، وحتى السلطان عبدالحميد الثاني - جزاه الله خيرًا - (عزل عام 1327م هـ - 1909م)، وما واجهه من جهود الدول الكبرى، وجهود الصِّهيونية العالمية لفتْح السبيل أمام اليهود للهجرة إلى فلسطين، وما كان من مواقف الرفض والإباء التي يعدها المؤرخون المنصفون من أكبر أسباب عَزله، ومن الأسباب الفاعلة في سقوط الخلافة العثمانية.

الجغرافيا السكانية للقدس:

تعد الفئات الإسلامية والقبائل العربية التي استوطَنت القدس بعد الفتح الإسلامي، على الرغم من وجود العرب الكنعانيين بفلسطين من الألف الرابع قبل الميلاد، وقد أصبح العرب غالبية كبيرة بعد الفتح الإسلامي، فزادت نسبتهم عن 90% من سكان القدس في كل عصور تاريخ الإسلام.

وقد ذكر (أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي) أن أهم القبائل العربية المعروفة التي استوطنت بيت المقدس في العهد الإسلامي - (إضافة لمن سكنوها من العرب قبل الإسلام) - هي:

• قبيلة بني عمر، ويقال لهم: العمريون، وهم بطن من بني عَدي بن كعب، عدنانية من قريش استوطنوا القدس.

• بنو فيض، وهم بطن بني صقر من جُذام الجنوبية الأصل، وهم قحطانيون استوطنوا القدس.

• الجعافرة، وهم بطن من بني الحسين من بني هاشم من العدنانية، وهم ينتسبون إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر، استوطنوا القدس.

أما عن الفئات الإسلامية الأخرى غير العرب، فقد استوطن القدس:

1- المغاربة ولهم في القدس حارة تنسب إليهم، ويسكنونها وقد وقفها عليهم - على اختلاف أجناسهم وذكورهم وإناثهم - الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن على بن السلطان صلاح الدين، وكانت لهم زاوية تُعرف باسمهم، وشيخها يسمى بشيخ المغاربة في القدس.

2- الهنود وكانت لهم زاوية في القدس عُرِفت بزاوية الهنود.

3- الأكراد وكانت لهم حارة تنسب إليهم.

4- اللاجئون سياسيًّا، وهم كثير من الأعلام اللاجئين وعائلاتهم، الذين كان السلاطين يبعدونهم عنهم، وبعضهم اختار الإقامة فيها بعيدًا عن مشكلات الحكم عن طيب خاطر.

على أنه من الجدير بالذكر هنا أن هذه الطوائف كلها قد ذابت في بَوتقة العروبة، ولم تكن أصولها الهندية والكردية والتركية أو غيرها حائلاً بينها وبين الذوبان في العروة عن رضًا واقتناعٍ، وذلك بتأثير الإسلام عليها، فالعروبة عند المسلم الرشيد مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدينه الإسلامي، وهي عند العربي غير المسلم حضارته وثقافته التي تشكِّل حياته الاجتماعية وعلاقته بالآخرين، ومعروف أن المسيحيين هم الذين سلموا القدس للمسلمين، ومن هنا فقد بقِيت دائمًا أقلية (عربية مسيحية) تعيش في القدس، وتدافع عنها ضد التسلل اليهودي، ولها ما للمسلمين وعليها ما عليهم

بل إننا لنعتقد أن هذه الأقلية المسيحية كانت أكثر صلابة في وجه التسلل اليهودي إلى القدس؛ لأنها عانت منهم الكثير، بدليل أنه كان من شروط تسليم القدس التي خضع لها المسلمون، ألا يساكن اليهود فيها المسيحيين والمسلمين، وهو شرط شرطه النصارى أنفسهم عند تسليم المدينة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وللمسلمين ودلالة هذا الشرط قوية لا تحتاج إلى بيان.

التسامح الإسلامي في القدس:

وقد توالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى في القدس وغيرها أفضل معاملة عُرِفت في التاريخ، لدرجة أن المؤرخ الإنجليزي الكبير "أرنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة وشاذة في تاريخ الديانات.

وكان أهل الذمة الأصليون يعاملون كأهل البلاد الأصليين دائمًا، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في إطار ما نص عليه الإسلام.

وقد نص القرآن على معاملتهم بالحسنى ومجادلتهم بالتي أحسن، إلا الذين ظلَموا منهم، كما أوصى الرسول بهم خيرًا.

وقد كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يعامل الزُّوار النصارى للقدس المعاملة الإسلامية المعتمدة لأهل الكتاب، وقد سمح الرشيد للإمبراطور "شارلمان" بترميم الكنائس، ولا سيما كنيسة العذراء التي تقوم على مكانها كنيسة الدباغة، وفي سنة 796م أهدى هارون الرشيد (شارلمان) ساعة دقاقة وفيلاً، وأقمشة نفيسة، وتعهَّد بحماية الحجاج النصارى عند زيارتهم للقدس، كذلك كان شارلمان يرسل كل سنة وفدًا يحمل هدايا إلى الرشيد.

وقد زار القدس في القرن التاسع عشر "برنار الحكيم"، وذكر أن المسلمين والمسيحيين (النصارى) في القدس على تفاهُم، وأن الأمر مُستتب فيها، وأضاف قائلاً:

"وإذا سافرت من بلدٍ إلى بلد، ومات جملي أو حماري، وتركتُ أمْتِعتي مكانها، وذهبت لاكتراء دابَّة من البلدة المجاورة، سأجد كل شيء على حاله، لم تَمَسَّه يدٌ".

وتتوالى صفحات التاريخ في القدس، فلا نكاد نجد فيها انقطاعًا لفعالية الروح الإسلامية المتسامحة العادلة، التي تقوم على حراساتها دروس المسجد الإبراهيمي والحلقات العلمية الإسلامية في المسجد الأقصى، ومسجد الصخرة، ولا تنطوي صفحة مضيئة من صفحات التاريخ، إلا لتبدأ أخرى حتى نهاية العصر العثماني الذي يتحدث عنه مؤرخ مسيحي معاصر هو الأستاذ (هنري كنن) بقوله:

وفي سنة 1518م / 924هـ فتح العثمانيون فلسطين وظلوا بها إلى سنة 1917م / 1336هـ، غير أن هذا الفتح لم ينطوِ على أي استعمار، ولم يترتب عليه أي تغيُّر كان في قوام الشعب؛ إذ إن الفتح التركي لم يغير أو يؤثر على أي نحو في الطابع العربي للبلاد.

وقد استمتع جميع المواطنين في الدولة العثمانية على اختلافهم من ترك وعرب ومسلمين، وعرب مسيحيين ويونانيين، وأرمن ويهود - بحقوق مدنية متساوية، دون نظر إلى جنس أو معتقدٍ، أو دينٍ، ثم جاء الدستور العثماني في 23 من كانون الأول (ديسمبر 1876 - 1293هـ)، فأكَّد مرة أخرى مبدأ المساواة في الحقوق، وهو المبدأ الذي كان مرعيًّا فيما سبق.

ولم يتعرض تاريخ القدس لأحداث دموية واضطهاد ديني منذ الفتح الإسلامي، إلا في تلك الفترة التي استولى فيها الصليبيون على بيت المقدس (1099 - 1187م) (429 - 573هـ)، وهي فترة شغلت من هذا التاريخ نحو تسعين سنة.

 المدير التنفيذى لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا يؤكد أن القدس إسلامية عربية

رئيس تحرير جريدة الأمة العربية ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى

 

اخر الأخبار