الإنسانُ إمكانيةٌ وجوديَّةٌ مفتوحةٌ

تابعنا على:   02:37 2016-06-27

عبد الرَّحمن بسيسو

ليسَ ثمَّة من مُجاوزة للحقِّ، و لا لفطرة العقل، في الإلحاح الدَّؤوب على تأسيس الدعوة إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة، وفي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي غيرها من مجالات الأنشطة الإنسانية وحقولها، على حقيقية مُضاعفةٍ ذات وجهين، أولهما أنَّ المرأة والرجل ضفتان لنهر جوهريٍّ هو نهرُ الإنسانيَّة الذي في مجراهُ يتدفقُ ماءٌ ماهويٌّ واحدٌ هو ماء الإنسانيَّة، وثانيهما أنَّ المرأة ذاهبة، بوصفها ذاتاً إنسانيةً وتحققاً وجودياً وهوية، وتماماً كما هي حال الرَّجل بوصفه ذاتاً إنسانية وتحققاً وجودياً وهوية، نحو كمالها الإنسانيٍّ المحتمل.

ولهذه الحقيقية الجوهريَّة، التي تنهض على أساس فلسفيٍّ راسِخٍ في حقيقيَّة الوجود وفي مغزى وجود الإنسان فيه، لتقولَ، في كُلِّ لحظةٍ وأنٍ، ما مؤداه أنَّ الإنسانَ إمكانيةٌ وجوديَّة مفتوحةٌ وتطلُّعٌ لاهبٌ إلى كمال إنسانيٍّ محتمل، أنْ تؤسِّس، بدورها، سلسلةً مترابطةً من الحقائق والفروض المؤصَّلة التي تؤكَّد أنَّ للمرأة حرياتٍ وحقوقاً إنسانيةً أساسيَّةً لا تقلُّ، أبداً، عن حقوق الرَّجل وحرِّياته الأساسيَّة ولا تزيد عليها، وأنَّ هذه الحُقُوقَ حقوقٌ ثابتةُ، راسخةٌ ومترابطةٌ، ويُعزِّز بعضها بعضاً، لأنها، في البدء والمُنتهى، حقوقٌ متأصِّلة في المرأة كذات إنسانية جوهريَّة، وذلك لكونها حقوقاً طبيعةً تتأصَّلُ في ماهيَّة طبيعتها، ولأنَّ لسلبها، أو انتقاصها، أو انتهاكها من قبل الآخرين، لا يُبطلها ولا يلغيها ولا يُضيِّعها أبداً!

وبطبيعة الحال، فإنَّ هذه الحقوق والحرِّيات مرتبطة بواجبات ومسؤوليات. ولسنا في حاجة إلى التَّدليل على أنَّ المرأة لم تكفَّ أبداً عن الالتزام بها وأدائها وتحمُّلها في تساوقٍ تامٍّ مع ما أتيح لها من حُقوق وحريَّاتٍ لتمارسها، بل لعلَّها التزمت بواجبات، وأدَّت مهمَّات، وتحمَّلت إعباءً ومسؤولياتٍ ترتبطُ بحقوق وحُرِّيات لم يُتح لها أنْ تتمتَّع بها أو تُمارسها، وذلك دون أنْ تتخلَّى عن السَّعي، أملاً أو نضالاً، للحصول عليها كاملةً، والشروع في ممارستها بحرِّية، و في ارتباط وثيق مع ما يترتَّب عليها من واجباتٍ ومسؤوليات، وفي تساوق تامٍّ مع الواجبات والمسؤوليات التي تترتَّب على الرَّجل الذي تُشَاركه، ويُشَاركها، السَّعيَّ اللاهب لإقرار احترام جميع هذه الحقوق والالتزام بإنفاذها وتطبيقها في كُلِّ مجتمع يسعى أهلهُ إلى كمالهم الإنسانيِّ، الحضاريِّ والوجودي، المُحتمل.

هذا هو، في واقع الأمر، المسوِّغ الرئيس شديد الإحكام للمطالبة بحقوق المرأة والدعوة إلى مشاركتها في صنع الحياة الاجتماعية بأسرها وفي اتخاذ القرار في كلِّ شأن يخصُّ حياة المرأة ومستقبلها. وليس للأقوال المتكائرة حول إنصاف المرأة، وضرورة إقامة سياسات التنمية والموازنات على توازن يتناسب مع جميع فئات المجتمع وشرائحه وطبقاته، مع تأكيد حقيقة أنَّ مشاركة المرأة صارت ضرورية للتنمية والتقدُّم، وأنَّ التقدير المعنوي للمرأة غير كافٍّ لإحداث التغيير، وأنَّ تهميش دورها يؤدي إلى إعاقة التنمية، ويجعلها تنميةً مغلقةً حبيسة، تماماً، كما أنَّ إبعاد المرأة عن المشاركة الفاعلة في الحراك الاجتماعي يُفضي إلى تخلُّف حياتنا من جميع الوجوه، بينما يفضي إشراكها إلى تجديد حياتنا وإثرائها، ذلك لأن للمرأة، بحسب ما تقولُ تجاربها الحياتيَّة والمجتمعيَّة المتنوِّعة الحقول والمجالات، نظرةٌ مختلفةٌ للحياة، ولديها طرائقُ ناجعة في إدارة المجتمع، وأساليب مبتكرة في القيادة.

نقول، ليس لمثل هذه الأقوال، أو غيرها من مقولات وعبارات تتنوَّع محمولاتها المفهومية وتتعدَّد منظورات إنتاجها والرؤية إليها، إلا أن تكون مجرد مسوِّغات تفصيلية إضافية، مهمة وضرورية، لترسيخ المسوِّغ الرئيس لإقرار حقوق الإنسان وحرِّياته الأساسيَّة في وعي الناس جميعاً، وأياً ما كان جنسهم، أو ميلهم الجنسيٍّ، أو نوعهم الاجتماعي، أو انتماؤهم الديني، أو عرقهم، أو لون بشرتهم، أو مستواهم الحضاريِّ والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أو لغتهم، أو عمرهم، أو الموقع الذي يحتلونه في إدارة شؤون البلاد، أو السلطة التي يمارسونها على مستوى اتخاذ القرار الذي يؤثِّر على حياة أيٍّ من الناس في أسرة، أو عائلة، أو جماعة، أو مجتمع، أو بلد، أو إقليم، أو في العالم بأسره.

واستناداً إلى هذا التأصيل المفهومي، والواقعي العملي، في آن معاً، تستطيعُ النِّساء، مثلما يستطيع كلُّ إنسان، جعل الاقتناع بحقوق الإنسان، وضمنها وفي ترابط وثيق معها حقوق المرأة، راسخاً في الوعي الإنساني الحُرِّ واليقظ، ومن ثمَّ نستطيع معاً، إناثاً وذكوراً، رجالاً ونساءً، الشُّروع في السَّعي، أو في مواصلة السَّعي، لجعل هذا الاقتناع راسخاً في وعيِّ كل إنسانٍّ، أو هيئة اجتماعية، أو مؤسَّسة أهلية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، أو إعلامية، أو غيرها، ونستطيع جعل الشَّرعة الدولية لحقوق الإنسان، والقانون الدَّولي الإنساني، وضمن ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدَّ المرأة، مرجعاً دائماً، أو أداةً نظريةً نسترشد بها في تصميم جميع أشكال نضالنا من أجل حقوق المرأة، وفي دعوتنا الآخرين جميعاً إلى احترام هذه الحقوق، والعمل على تطبيقها، وبذل كل جهد يُسهم في تعميق مسار الحراك الاجتماعيِّ المؤيد لها وتوسيعه، وتعزيز مسيرة الفاعلات الاجتماعيات والفاعلين الاجتماعيين، الناهضات والناهضين بأنشطة وحملات وتحركات متواصلة ومترابطة ومتعدَّدة المجالات من أجل تأكيدها، والحصول عليها، وتمكين جميع النساء من ممارستها جميعاً، وفي نطاقها، وفي ترابط معها بالطبع، الحقوق السياسية، وحقوق المشاركة في الحياة العامة.

*سبق نشر هذا المقال تحت عنوان "المرأةُ والرَّجل ضفتا نهر واحد"، وذلك في صحيفة "العرب" اللندنيَّة، وهنا نص مُدقق وموسَّع للمقال نفسه.

اخر الأخبار