قراءة في قصيدة دوثان للشاعر عبد السلام العطاري

تابعنا على:   17:20 2016-05-28

باسمة صواف

من يقرأ ديوان (دوثان) يدخل في حالة من الدهشة متسائلا عن معنى العنوان، يحاول اختراق النصوص ليمسك بمعاني الكلمات، وعمق الانفعالات، ليجد نفسه في مصيدة خريطة رسمها الشاعر بأحاسيسه للطبيعة، والتاريخ، والحكايات، هي لحظات زمنية تتجمد لترسم لوحات فنية شاهدة على جدلية الواقع والألم، عبر حوارية الماضي والحاضر ليصل بنا إلى اللذة، فتحضر الذات، ذات الشاعر، وانفعالات القارئ، فالنص هو الوسيط الوحيد الذي نفهم من خلاله أنفسنا حسب رأي "ريكور"، وهنا تحضر عملية التأويل فيخرج النص من ذاتية الشاعر إلى المتلقي ليجد نفسه محاطا بجمالية النص، فيمارس فعل التأويل حسب المدرسة "التأويلية".

في نص (دوثان) سندخل إلى عوالم مضت، انتصارات وانهزامات، تاريخ حط رحاله في واقع يمارس هروب دائم إلى المستقبل، في تأويل منا لسبر أغوار النص الشعري، لمعرفة أسباب استحضار التاريخ بأماكنه وشخصياته؟!!

هناك خطاب أراد الشاعر أن يوصله للقارئ قبل عملية البدء بالحوار مع التاريخ والطبيعة، فالتخاطب يسبق الحوار حسب رأي (باختين)، خطاب فيه سرد ذهني وبصري، اعتبارات جمالية، صور نبتت من قاع ذاكرة، تذوق فلسطيني لواقعه عبر ممارسات الفعل والقول.

يقول الشاعر في قصيدة (دوثان 2):

الخيول المتعبة من غزوات الأمس

المبللة من شمس دوثان، وعرق النهار

وبقايا الجثث المنسية في عزلة الكهوف

سهم يشير... روما مرت من هنا

هنا ارصفة وحجارة وخطى عربات قديمة

وترس صدئت عليه السنوات

وصلبت عليه البطولات

في هذا المقطع الشعري يحضر التاريخ متعبا بغزواته، ويحضر اسم دوثان الكنعاني ليكون شاهدا على انكسارات وانهزامات، فتحضر روما بقوتها لتسجل بصمة مرور في تاريخ واقع دوثان، وهنا تظهر حالة القلق النفسي التي يحيا بها الشاعر لينقلها إلى المتلقي من خلال صور دلالية ايحائية مستخدما أصواتا، وروائح، وألوانا، فهنا الخيول المتعبة، وعرق النهار، وبقايا الجثث المنسية، وخطى عربات قديمة، وترس صدئة.

صور استحضرها الشاعر من التاريخ ليخاطب الواقع في مقارنة خفية، ليحول المخفي إلى مرئي، بأسلوب غير مباشر، لذا جاء بصوت التاريخ لنقد الواقع وشاهدا عليه.

وقد طوّع الشاعر اللغة، ليحيلنا إلى مدار التاويلات لندخل في عبور بين الممكن واللاممكن بين الماضي والحاضر لتبقى البطولات مصلوبة على عتباتهما.

اوكتافيوس.. أنت هنا؟

هذا الحصان قلبك

يلهث على بوابات السماء في دوثان

أين بوابات القصر؟

أين حراسك النبلاء الملائكة الفدائيون؟

أسالك اليوم التاج مضاعا

لكن.. من يسأل عن نبي الجب الـ كان عنا؟

اساله: لماذا تركت الخوف مزروعا.. هنا؟

هنا.. واد التفاح تعرفه

جئنا بعدك.. نعرفه

غمسناه إفطارا ونعسنا على ذراعيه

حلمنا بروميّة

يرن الليل خلخالها الذهبي المرصع بماسة فارسية

كحلم الأزهار الموؤودة في حقل الالغام

حلم الريح الـ تُراكض ظبية الربيع النافر

على الحشائش الغضة

كأول شهقة لنافذة في دوثان

استخدم الشاعر أسلوب الاستفهام الإنكاري في قوله: أوكتافيوس أنت هنا؟ ويكرر هذا الأسلوب عند ذكر بوابات القصر، وسؤاله عن الخوف؟ وعند السؤال عن الحراس والفدائيين.

كما استخدم ضمير المخاطب حينما خاطب (اوكتافيوس) لخلق حالة شعورية بين المتلقي والنص، فيشعر بحالة تفاعلية وجدانية مع الشخصية.

يستحضر الشاعر شخصية (اوكتافيوس) التاريخية الذي استطاع بالرغم من صغر سنه أن ينتصر على ماركوس أنطونيوس وكليوباترا، على الرغم من الصعوبات التي واجهته بعد موت يوليوس قيصر، ليصبح امبراطورا لروما، كما يستحضر حكاية الجب الذي ألقي فيه النبي يوسف في جانب تل الحفيرة في تل دوثان، ليعقد لنا ترابطا تاريخيا، وحضارة شهدها المكان، فيذكر الشاعر توالي الاجيال لتكون شاهدا على وجود الحضارة.

هذه الأجيال التي ترى في المكان رومية جميلة ترن بخلخالها الذهبي ليل دوثان على هيئة حلم، لكن الحلم يشبه الأزهار الموؤودة في حقل الألغام أو الريح التي تراكض ظبية الربيع كأول شهقة لنافذة في دوثان، وهذا يدل على الحالة الشعورية التي يعيشها الشاعر من قلق واضطراب وحزن.

وعلى الرغم من ذلك إلا أنها تبقى صورة جميلة؛ لأن الشاعر استحضرها من التاريخ لينشرها في مرآة الحاضر على الرغم من وجعها، ليدخلها في حالة من التوأمة، فالقصيدة تدفقت في معانيها ودلالاتها وايحاءاتها لنتذوقها عبر انفعالات الشاعر الفكرية والنفسية لنعيش أماكن امتدت كجذمور ما بين الحاضر والماضي، فيحضر النص بقوة.

اخر الأخبار