الهروب الى قن القبيلة

تابعنا على:   00:11 2016-02-12

عدنان الصباح

عادة يجري التاريخ بمنحى تطوري وتصاعدي ولأمد يمكن اعتباره مقبولا قبل أن يتوقف ثم يتراجع إلا عند العرب فبعد ان قطعوا أشواطا طويلة في الانتقال من حالة القبيلة والعشيرة والانقسام إلى حالة التوحد حول سمو المبدأ أو الفكرة إلى الدولة إلى الأمة ثم الانتشار العظيم والتوسع ومع أن وحدة الخلافة الإسلامية لم تدم إلا في عهد الخلفاء الراشدين وليس أكثر من ثلاثين عاما حيث بدأت الانشقاقات بعد حكم معاوية ولجوئه إلى نظام التوريث في الخلافة الإسلامية فبدأت الانقسامات والانشقاقات والثورات بدءا من ثورة الحسين بن علي على حكم التوريث الذي سنه معاوية وانتهاء بانهيار الخلافة العباسية وبدء عهد من الدول والصراعات بين مراكز مختلفة للخلافات الاسلامية.

الفترة الذهبية عند العرب وتسلمهم مقاليد الحكم والادارة بالكامل لم تستمر طويلا وفي حين استمرت وحدة الامبراطورية المسيحية بكل تقلباتها الى اكثر من الف عام حيث حدث الانشقاق الكبير حين انقسم العالم المسيحي بين الكنيسة الكاثوليكية الغربية ومقرها روما والكنيسة الأرثوذوكسية الشرقية ومقرها القسطنطينية وواصلت الكنيسة الكاثوليكية سيطرتها حتى القرن الرابع عشر حين بدء الصراع بين الدولة والكنيسة وقد ظلت الكنيسة الفرنسية تحديدا بعد الانشقاق عن روما تقود العالم المسيحي دينيا ودنيويا وهي التي جاءت بالحملات الصليبية ولم ينتهي هذا الدور عمليا الا بعد الثورة الفرنسية في 1789م وهذا يعني ان الغرب الذي توحد حول المسيحية عاش فترات استقرار سياسي واقتصادي طويلة مكنته من تشكيل هويته الخاصة والمتجذرة بعكس الحال عند العرب ففي حين لم تتجاوز فترة حكم الخلفاء الراشدين الثلاثين عاما حكم الامويين مدة ثمانين عاما تقربا من 662م حتى 750م وحكم العباسيين اطول مدة في تاريخ الدولة الاسلامية رسميا اذا امتدت فترة حكمهم طوال 767 سنة من سنة 750م حتى سنة 1517م حيث انتهت هذه الدولة رسميا وغابت عن الوجود, الا ان الدولة العباسية عاشت في حقيقة الامر عصورا اربع حسب راي المؤرخين وهي:

العصر العباسي الأول : استمر حوالي قرن وقد كان بارزا فيه النفوذ الفارسي على حساب العرب وهو العصر الذهبي للعباسيين واخذ الفرس فيه دور الصدارة ونشطت في الحركة الثقافية والعلمية وكان الفرس صناعها الحقيقيين.

العصر العباسي الثاني : واستمر لقرن آخر من الزمن وقد طال فيه الدولة بعض نواحي الضعف وقد ظهر فيه النفوذ التركي بشكل واضح وبدأت تظهر فيه بعض نواحي الضعف في الدولة وغاب العرب ايضا عن الدور الرئيس في الحكم وادواته.

العصر العباسي الثالث : وهو عصر سيطرة البويهيين الفرس كليا على الدولة العباسية بحكم ابو معز البويهي وبذا ظهرت الدولة العباسية رسميا كدولة شيعية يحكمها الفرس لا العرب بشكل جلي وواضح وبذا ولذا بدأت تظهر دويلات على هامش الدولة ومنها الحمدانية والإخشيدية وغيرها.

'العصر العباسي الرابع :'وهو عصر انحلال الدولة العباسية رغم انه دام حوالي القرنين من الزمان وقد امتاز بسيطرة السلاجقة وانتهى بسقوط بغداد على يد على يد المغول وغياب الدولة العباسية عن الخارطتين الجغرافية والسياسية.

وغني عن القول ان الدولة العباسية سرعان ما فقدت احكام سيطرتها وظهرت العديد من الدول في عهدها كان اهما الدولة الفاطمية والتي اختلف العديدين في تحديد اصول زعمائها فبين من أعاد نسبهم إلى العلويين وقريش إلى من أنكر ذلك ووصفهم بالفارسية واليهودية ودل هذا على حجم الانقسام والصراع السياسي الذي دار على الحكم بعد فترة وجيزة من حكم العباسيين الذين وجدوا معارضة شديدة لهم من قبل فئات عديدة ومدارس مختلفة.

الفترة الأوسع حظا في سيطرة العرب على الحكم في الخلافة كانت فقط فترة الدولة الأموية, والتي خرج العرب فيها من مركزهم ليقيموا الدولة بعيدا عن أصل قوتهم ووجودهم وبدل الاهتمام على الجزيرة العربية والإمساك بها والإبقاء عليها كمركز للإشعاع الديني ولإحكام سيطرة العرب بالتالي على الحكم راحوا يبحثون عن متع الدنيا لدى الحضارات الأعرق والأقدم منهم وكان هذا اعتراف غير مباشر منهم أولا بأفضلية تلك الحضارات عليهم وثانيا وضعوا أنفسهم تحت رحمة من هم من غير العرب مما أدى إلى تسهيل التخلص منهم وبأسرع مما تخيلوا حتى, فبعد حكم الأمويين القصير بدأ جديا خضوع العرب حكما وباسم الإسلام لقوميات أخرى وقد يجوز إعادة ذلك إلى أن العرب خرجوا من الجزيرة العربية لا يملكون سوى إيمانهم الذي تلقفه الآخرون منهم وأضافوا لهم حضاراتهم وتاريخهم الطويل وقد يكون هذا ما يجعل من العراق القريبة من الحضارة الفارسية مركزا للدولة العباسية ثم خروج المعارضة الأبرز من مصر ذات الحضارة الفرعونية العريقة.

العرب خرجوا من الجزيرة العربية ليجدوا أمامهم بحر واسع من حضارات تضرب عمقها في التاريخ طويلا ولا يمكن تجاهل آلاف السنين من حضارات عاشتها تلك القاع التي أخضعها العرب للإسلام ولذا كان من الطبيعي أن تؤول الأمور إلى من هم أكثر حضارة ويصبح العرب أتباعا لغيرهم رضوخا لحضارات وثقافات لم يكن من الممكن القضاء عليها وعلى تجلياتها في الثقافة التي شكلت شخصية أبناء تلك القوميات عبر التاريخ ولم تغب عنهم بل ظلت المحرك لهم ودفعتهم لقلب موازين الأمور لصالحهم حيث أمكنهم ذلك واعتبار الدين كما هو فعلا ملك للجميع وليس للعرب فضل فيه, وقد يكون تجلى بشكل أوضح في أيامنا هذه حين اطل الصراع الطائفي برأسه بين الشيعة والسنة مثلا رغما عن الجميع فضلا عن الصراع القومي فيصير السني عربي والشيعي فارسي وتصبح المعركة بين الفرس والعرب كما كان الحال في ثقافة الحرب بين العراق وإيران أو كما تجلت الصراعات الطائفية في العراق بعد احتلال أمريكا لها وبات يوصف الشيعي بأنه فارسي أو تابع للفرس ويوصف السني بأنه عربي.

العرب والاختلاط بالغير:

وصول العرب الى شعوب وثقافات اخرى لم تمكنهم من السيطرة ثقافيا وفكريا على هذه الشعوب بل العكس هو الذي حصل فقد وجد العرب انفسهم يعيشون بين ظهراني هذه الشعوب ويتأثرون بثقافتها ولعل الازدهار الثقافي الذي اصاب بغداد والتدقيق فيه نجد ان الحصة الاكبر كانت للمبدعين والمثقفين وغيرهم من غير العرب, وقد يفسر ذلك تواصل ظهور الحركات الشعوبية بين فترة واخرى في العالم العربي وقد بدأت هذه الحركة بالظهور منذ العصر الاموي ممن لا يرون أي فضل للعرب عليهم من غير العرب وقد بدأ ظهور الشعوبية من المسلمين الفرس ثم انضم اليهم الاتراك والهنود والاسبان الذين اسلموا في الاندلس وقد يفسر ذلك طهور حركات وكتاب حتى العصر الحالي يعودون احيانا الى التاريخ القديم لبلادهم كم يتحدث عن مصر الفرعونية او عن القومية السورية او استمرار الحديث عن الأمازيغ وغيرهم وكل ذلك يعني ان اخضاع العرب لغيرهم باسم الاسلام لم ينهي صلة هؤلاء بقومياتهم.

من جانب اخر فقد تمكن غير العرب من حكم البلدان العربية لفترات طويلة وما فترة الحكم العثماني الا دليل على ذلك بحيث اختلطت الانساب والثقافات وبإمكان من يريد البحث ان يجد عديد العديد من العائلات العربية على امتداد الوطن العربي من اصول تركية وكذا الاصول اليونانية والفرنسية وغيرها وهذا يعني حالة خرافية من الاختلاط الذي رافقه بالتأكيد تشويه للصورة النمطية للعربي لدى نفسه اولا ولدى العالم من بعده.

بداوة في السياسة:

حياة البداوة التي عاشها العرب في الجزيرة العربية وما يتصف به العربي من التنقل طلبا للعشب والماء او التجارة هي التي جعلت من العرب يستسهلون الانتقال إلى البلدان التي يفتحونها باسم الإسلام ويعيشون بين ظهراني أهلها ويأخذون منهم نمط حياتهم ولذا كان من السهل على الأمويين نقل عاصمتهم إلى دمشق وكذا فعل العباسيين بتنقل عاصمتهم بأكثر من موقع إلى أن استقر بهم المطاف في بغداد وهذا ما يفسر أن الخلافة الإسلامية لم تعد إلى الجزيرة العربية نهائيا بعد حكم الخلفاء الراشدين والعكس هو الذي حصل أي انتقال العرب إلى الخارج ونقل مركز قوتهم إلى هناك ولذا شهدت كل الأقطار الأخرى تطورا ونشاطا لم تشهده الجزيرة العربية بل وجرؤ البعض على محاولة نقل المركز الديني أيضا إلى خارج الجزيرة العربية كما فعل القرامطة فالمكان أبدا لم يكن له أي قيمة في عرف العربي وبدل ان تؤثر ثقافة البادية في حضارات بلاد الشام والرافدين وحوض وادي النيل حصل العكس وفيما عدا اللغة العربية التي يرجع الفضل في انتشارها للقرآن الكريم لا للعرب فلم تأخذ الشعوب عن العرب شيئا آخر في حين حرصت بعض القوميات التي حافظت على عرقها كالفرس والأتراك والأكراد على سبيل المثال لا الحصر على لغاتهم القومية مع الإبقاء على اللغة العربية كلغة لقراءة القران دون حتى فهم معانيها.

شتم الذات انتاج عربي حصري:

قد يكون من حق العرب التباهي بانهم وحدهم من دون امم الارض من ابتكروا بضاعة شتم الذات وان انتاج هذه البضاعة في الشعر وغيره من صنوف الادب والفن هو النوع الاكثر رواجا في الاوساط الشعبية العربية وانت تجد الشبان العرب يرددون هذا النوع من الشتائم بتفاخر عجيب تكاد تعتقد انه نمط من الاعتزاز بشتيمة الذات حتى ليدفعك الامر ان تتساءل بحق أهؤلاء عرب فعلا واذا كانوا كذلك فأية امة عاجزة هذه تنتصر لذاتها بإنتاج الشتائم وكفى ... فقد قال نزار قباني شاتما الذات العربية في احدى قصائده

نحن بغايا العصر

كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن

نحن جواري القصر

يرسلوننا من حجرة لحجرة

من قبضة لقبضة

من مالك لمالك

ومن وثن إلى وثن

نركض كالكلاب كل ليلة

من عدن لطنجة

ومن عدن الى طنجة

نبحث عن قبيلة تقبلنا

نبحث عن ستارة تسترنا

وعن سكن.

وقال مظفر النواب:

أعترف الآن أمام الصحراء

بأني مبتذل وبذيء كهزيمتكم.

يا شرفاء المهزومين

ويا حكام المهزومين

ويا جمهورا مهزوما

ما أوسخنا .. ما أوسخنا.. ما أوسخنا

ونكابر ما أوسخنا

لا أستثني أحدا. هل تعترفون

ويمعن مظفر النواب اكثر في الشتم حين يقول:

أصرخ فيكم

أصرخ أين شهامتكم..؟

إن كنتم عربا.. بشرا.. حيوانات

فالذئبة.. حتى الذئبة تحرس نطفتها

و الكلبة تحرس نطفتها

و النملة تعتز بثقب الأرض

وأما انتم فالقدس عروس عروبتكم

أهلا..

أما الشاعر اليمني عبدالله البردوني فقد قال:

لقد جئنا نجر الشعب في أعتاب أعتابك.

ونأتي كلما تهوى نمسِّح نعل حجابك.

ونستجديك ألقابا نتوجها بألقابك.

فمرنا كيفما شاءت نوايا ليل سردابك.

نعم يا سيد الأذناب إنَّا خير أذنابك.

ومثل هذه القصائد واصناف الادب تلقى رواجا كبيرا حتى في اوساط المثقفين والثوريين الذين من المفترض انهم اساس استنهاض الامة ورفع شانها والدفع بها الى الامام فكيف يمكن تفسير ذلك سوى ان الانتماء الى العروبة اصلا مشكوك فيه والا فلماذا لا نجد شاعرا او كاتبا عربيا واحدا هجى القبيلة او العشيرة او المدينة او القرية او حتى القطر الذي ينتمي اليه.

نكوص الى الوراء:

في الوقت الذي تسعى فيه الامم الى التوحد اكثر فاكثر وتنجح اوروبا بإقامة اتحاد متقدم بكل التفاصيل يفتقد العرب قن القبيلة بإرادتهم او بدون ارادتهم في انقسامات وصراعات لا نهاية لها وتشير كل الدلائل اليوم ان النتائج ستكون انقساما اكثر فأكثر وسيأخذ هذا الانقسام اشكال وانماط عجيبة جهوية وطائفية واستعادة لعصبيات نائمة منذ أمد بعيد وما الحروب الدائرة في العراق وسوريا واليمن وليبيا وما خفي ويخفى يؤكد على ان حكاية الامة الواحدة منخورة ثقافة وتأصيلا والانتماء القبلي لا زال ينخر في هذا الجسد المركب بطرق عجيبة لم تعش بما يكفي لتتكون وتتأصل كما ينبغي لها ذلك, ويلعب المثقفين العرب أسوأ الادوار بهذا الشأن فهم اما ناقدين ناقمين شاتمين واما هاربين مغتربين غرباء يستسهلون الحديث عن الوطن من خارجه ويبحثون عن الاستظلال بظل الاعداء حالمين بوطن غابوا عنه بإرادتهم معظم الاحيان او رغما عنهم ولانعدام الرغبة بالصمود والفعل نحو غد افضل وهم يفعلون اليوم ما لم يفعله مثقفي سائر الامم الذين لم يبحثوا عن ملاذ للهروب من الوطن ليصوغوه حلما تحت رايات اعدائهم.

اخر الأخبار